السودان بين حكومة حمدوك وسطوة العسكر

السودان بين حكومة حمدوك وسطوة العسكر

03 يوليو 2021
+ الخط -

شهد السودان، في الأيام القليلة الماضية، جملة مسيراتٍ عمّت معظم ولايات البلاد، احتجاجاً على عدم تحقيق أهداف الثورة التي أطاحت حكم عمر البشير في إبريل/ نيسان من عام 2018، وكذلك على سوء الوضع المعيشي، بما أعاد عقارب الساعة إلى الوراء. وبينما كانت الأنظار مشدودةً إلى هذه الموجة الجماهيرية الجديدة، فقد ظهرت الشرطة السودانية وهي تؤدّي دورين معاً. الأول عملت فيه على قمع الحركة الاحتجاجية بالهراوات والغاز المسيّل للدموع، منعاً لوصول الجمهور الغاضب إلى مواقع سياديةٍ تتعلق بقيادة القوات المسلحة ومقر مجلس السيادة. وتمثل الدور الثاني الذي نهضت به الشرطة بخروج أعداد كبيرة من أفرادها بمسيراتٍ في الخرطوم، احتجاجاً على ضعف الرواتب التي يتلقاها أفراد هذه القوة (ما يقارب 30 دولاراً شهرياً)، وللدفاع عن سمعتها المهنية والوطنية نتيجة زجّ أفرادها في مواجهات دامية مع الجمهور، ثم لسببٍ آخر لا يقل أهمية ويتمحور حول الشكوى من ازدواجية مرجعيتهم بين الحكومة ومجلس السيادة الذي يضم عسكريين ومدنيين، لكن رئاسته للعسكر، بحسب اتفاق أغسطس/ آب 2019، الذي سمّي الإعلان الدستوري.

هيمنت المؤسسة العسكرية على قيادة الدولة، وعلى القرارات السيادية، بما فيها توقيع اتفاقياتٍ دولية، وتبخيس قيمة الحريات العامة والفردية

ومع مشهد الغليان الشعبي الذي يعيد إلى الأذهان احتجاجات عام 2018 ضد حكم الفريق البشير وحزبه المؤتمر الوطني، فإن الراهن السياسي السوداني يشكو من ضبابيةٍ ثقيلةٍ تخللها أخيراً أمرٌ ذو أهمية، تتطرّق إليه السطور اللاحقة، فالاتفاق الدستوري منح المكون العسكري فترة 21 شهراً لقيادة البلاد، على أن يتولى المكون المدني، عقب ذلك، رئاسة مجلس السيادة، ويتخلل ذلك تشكيل مجلس تشريعي، بمهمّات محدودة، فيما تجرى انتخاباتٌ برلمانيةٌ في مطلع عام 2024 لانتخاب مجلس تشريعي يخلف المجلس المعيّن المؤقت. وإذ انتهت الفترة المتفق عليها للمكون العسكري في 21 مايو/ أيار للعام الجاري، فإن هذا التاريخ قد حلّ، من دون أن تنتقل القيادة إلى المكون المدني، وبدون أي تفسير لهذا الإخلال بالاتفاق، وبغير تحديد معالم خطة طريق (صاغ رئيس الحكومة عبد الله حمدوك أخيراً خطةً طموحة، بغير التطرّق إلى تحدّيات تطبيق الإعلان الدستوري). وواقع الحال أن عدم التقيد بالاتفاق الأساسي الذي جرى قبل نحو عامين يومئ إلى تغيير المعادلات السياسية، وإلى أن ما بدا مؤقتاً وانتقالياً في سبيله إلى أن يتحول إلى الثبات والديمومة بقوة الأمر الواقع. وخلال ذلك، يغطي مجلس السيادة قمعه الاحتجاجات وانفراده بتقرير الأمور السيادية، بالادّعاء بصفة مستمرّة أن الغضب الشعبي يوقد ناره حزب المؤتمر الوطني، المنحلّ. بهذا، فإن هذا الحزب وحده الذي يُفسد العلاقة بين حكم مجلس السيادة والرأي العام. وهذا استهتار مفرط بذكاء السودانيين، إذ ينبئ ما يجري، منذ نحو عامين، باستبدال طاقم عسكري حاكم بطاقم جديد، مع ما يتسم به حكم العسكر من فرديةٍ ومن انقطاع عن الشعب المدني. وكان لافتاً حين تم الإعلان عن الاتفاق الدستوري أن الجماهير أخذت تهتف "مدنية مدنية"، فيما كان نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، يخرج من الاجتماع، وذلك بمطالبةٍ صريحةٍ بدولةٍ مدنيةٍ ينبني الحكم فيها على إرادة الناخبين والمؤسسات الدستورية المنبثقة عنها، لا أن يتولّى العسكر الحكم بصورة مباشرة أو مداورة من خلال واجهة مدنية.

وثمّة استحقاق آخر، تم القفز عنه، وهو الإعلان عن نتائج التحقيق في المجزرة التي ارتكبت أمام مقر القيادة العسكرية في 3 يونيو/ حزيران 2019، وأوقعت 128 قتيلاً على الأقل من المعتصمين، وقد ألقيت جثث بعض هؤلاء الضحايا في نهر النيل. ومنذ ذلك التاريخ، يتم تجهيل أسماء الفاعلين، ومن أصدر الأوامر بقتل المعتصمين بدم بارد. وغنيٌّ عن القول إنه يتعذّر الاستبشار بعهدٍ جديدٍ من حكم القانون وتحقيق أهداف الثورة، فيما يستهل هذا العهد بداياته بارتكاب مثل هذه المذبحة، ثم العمل على طي صفحتها.. فما الذي يكون، والحالة هذه، قد تغير عن حكم البشير؟ مع بقاء أمورٍ كما هي عليه، مثل هيمنة المؤسسة العسكرية على قيادة الدولة، وعلى القرارات السيادية، بما فيها توقيع اتفاقياتٍ دولية، وتبخيس قيمة الحريات العامة والفردية بالجمع بين خطاب حقوق إنسان وممارساتٍ نقيضة تهدر هذه الحقوق، وافتقاد وجود آلية لمكافحة الفساد على جميع مستوياته في القطاعين، العام والخاص، ولمنع قيام بيئةٍ يزدهر فيها الفساد.

تم القفز عن استحقاق تشكيل مجلس تشريعي مؤقت، تختار قوى الحرية والتغيير ثلثي عدد أعضائه، فيما تبلغ نسبة النساء فيه 40%

وإلى جانب القفز عن استحقاق نقل القيادة إلى المكون المدني، فإنه قد تم القفز عن استحقاق تشكيل مجلس تشريعي مؤقت، تختار قوى الحرية والتغيير ثلثي عدد أعضائه، فيما تبلغ نسبة النساء فيه 40%. وقد جرى استغلال تصدّعات في صفوف هذه القوى للالتفاف على هذا الاستحقاق، والإيحاء بأن تشكيل مثل هذا المجلس لا يقدّم ولا يؤخّر في أحوال البلاد والعباد.

وقد وقع تطور مهم في فبراير/ شباط الماضي مع الإعلان عن حكومةٍ ثانيةٍ وموسعةٍ برئاسة عبد الله حمدوك، ودخل إليها ممثلون للمعارضة ولقيادات الحركات المسلحة، واختار العسكر فيها مجدّداً وزيري الدفاع والداخلية، وكأن وزارة الداخلية مؤسسة ذات طابع عسكري، مثل وزارة الدفاع! وقد أعلنت الحكومة بتشكيلتها الجديدة، يوم 26 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) بين قراراتٍ أخرى، تتعلق بالقضايا وجهاز المخابرات العامة، قرارها بتشكيل مجلس تشريعي خلال أقل من شهر، وهي مبادرة محمودة وشجاعة من حمدوك، وإن كان مستغرباً بعض الشيء التوجّه نحو تشكيل هذا المجلس في غضون أربعة أسابيع فقط، بعد تأجيل وتسويف طويلين سابقين. إذ تكمن الخشية في ألّا يتمكّن المجمع المدني ولجان المقاومة والأحزاب من الاتفاق خلال هذه الفترة القصيرة على أسماء الممثلين، مع احتمال تحميل مسؤولية الإخفاق للقوى المدنية. على أنه يمكن ملاحظة أن حمدوك، وهو يدرك حجم التحديات الداخلية والخارجية التي تثقل كاهل السودانيين (نحو 44 مليون نسمة)، ومنها أزمة سد النهضة ومياه النيل، مع تعقيدات الوضع الانتقالي، فإنه بات ينتهج سياسة تقوم على تحقيق إنجازاتٍ محدودةٍ ومتراكمة، ومنح صلاحياتٍ أكبر لحكومته، بما يشمل المجال الأمني، بما يشيع مناخاً سياسياً جديداً، ومعه معادلة نهضوية جديدة، قوامها أن المكوّن المدني سوف يجد تمثيله الفعلي في الحكومة متعددة الأطياف، ذات الصلاحيات الواسعة وصاحبة الولاية العامة، إضافة إلى المجلس التشريعي المزمع تشكيله، على أمل أن تسهم هذه الحكومة، مع هذا المجلس، في تمكين البلاد من عبور المرحلة الانتقالية، وبحيث تتقلص تدريجياً نزعة المكون العسكري لمجلس السيادة إلى الانفراد بالحكم، وبغير احتكاكٍ معه، وتتقلص معها سطوته على الشارع التي لا يحدّها حد، ولا يقيدها قيد. فهل تنجح حكومة حمدوك في تحقيق هذا الطموح، وهل ينشأ تعاون وثيق بين الحكومة وقطاعات المجتمع السياسي والمدني الواسعة، من أجل شقّ طريق آخر، وبدون التقيد الحرفي دائماً بالإعلان الدستوري، وتتحقق فيه الأهداف نفسها التي هتف بها الثوار، وقضى من أجلها عشرات المعتصمين والمحتجين من زهرة شباب السودانيين على مدار السنوات الثلاث الأخيرة؟