الربيع العربي في المناهج الدراسية التركية

الربيع العربي في المناهج الدراسية التركية

11 ابريل 2022

تلاميذ ومدرّّستهم في إحدى مدارس سقاريا شمالي تركيا (12/10/2020/الأناضول)

+ الخط -

شكّل الربيع العربي علامة فارقة في تاريخ العرب المعاصر، فلم يعد حال المنطقة بعده كما كان قبله، وعلى المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية كافة. هذا على الرغم من اختلاف توصيفات الربيع العربي، سواء أكان هذا الفريق يراه مؤامرة كونية على العرب من دول الغرب وأميركا وإسرائيل لتقويض دول العالم العربي لنهب ثرواته الاقتصادية، ثم تسليم السلطة لعملاء أكثر ولاء وطاعة لخدمة المشروع الصهيوني والغرب وأميركا وأدواتهم في المنطقة، أو كان لدى فريق آخر حركة احتجاجية شبابية طبيعية ضد الواقع العربي المرير اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وتعبيراً عن حالة انسداد حضاري أصابت الحاضر العربي ومستقبله، الأمر الذي أدّى إلى أن تكون ولادة الربيع العربي لحظة انفجار للشباب العربي في وجه سلطاته المستبدّة والفاسدة لتغييرها، كما حدث في تونس ومصر ولبيبا وسورية.
تتبنّى المناهج الدراسية التركية السردية الثانية المفسّرة لانطلاق الربيع العربي التي تضمنها كتاب التاريخ التركي المعاصر والعالم في الصف الثاني عشر الصادر عن وزارة التربية التركية عام 2020، بعد عملية تغيير شامل لكل المواد الدراسية (وهي عملية تجريها وزارة التربية كل خمس سنوات)، لرفد المناهج بجديد المعارف العلمية أو التحولات السياسية الدولية، وخصوصا في ما يتعلق بدول الجوار التي تترك أثرها المباشر على الحياة التركية.
وتنطلق سردية المناهج الدراسية التركية من أن شرارة الربيع العربي بدأت شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 2010، عندما أحرق شاب جامعي تونسي نفسه، في أثناء عمله بائعاً للفاكهة في سوق شعبي، بسبب تعرّضه للظلم والقهر الذي استهدف كرامته الإنسانية، فضلاً عن ضغوط الحياة الاقتصادية التي تعرّض لها، فانتشرت المظاهرات في تونس بأكملها، ثم انتقلت الحوادث إلى مصر واليمن وليبيا وسورية تحت شعارات الديمقراطية والتغيير. وإذ سمّيت الأحداث التي وقعت في جورجيا باسم ثورة الورد، أو الثورة البرتقالية في أوكرانيا، أو ربيع براغ في تشيكوسلوفاكيا، فمن الطبيعي أن تسمّى الحوادث التي وقعت في الجغرافيا العربية باسم الربيع العربي.

البطالة والرشوة والفقر من أهم الأسباب التي دفعت شباب العالم العربي إلى التمرّد والعصيان الشعبي، لأن السلطة الحاكمة غير قادرةٍ على حل مشكلاتهم المختلفة

ولا تقتصر سردية المناهج الدراسية التركية على تفسير شرارة الربيع العربي أو تسميته فحسب، بل تذهب عميقاً إلى البحث في الأسباب التي دفعت الشباب العربي إلى الثورة في وجه الظلم والقهر الواقع عليهم، فهناك أسباب تاريخية بنيوية، تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية ومرحلة انتهاء الاحتلال الغربي للبلاد العربية، فقد تشكّلت فيها الدول القومية على أسس غير سليمة، منها العشائرية والطائفية، وهما الأساسان اللذان يضمنان استمرار الصراعات في المنطقة العربية. يضاف إليهما أن العالم العربي، وعلى الرغم من غناه بالثروات الطبيعية، فإن البطالة والرشوة والفقر من أهم الأسباب التي دفعت شبابه إلى التمرّد والعصيان الشعبي، لأن السلطة الحاكمة غير قادرةٍ على حل مشكلاتهم المختلفة.
لم تستبعد السردية التربوية التركية في تقديمها أسباب الربيع العربي العامل السياسي من تفسيرها، بل تذهب إلى أن أغلب أنظمة الحكم العربية، جمهورية كانت أم ملكية، تعتمد على رجل واحد أو حزب أحادي، ولا تسمح بوجود المعارضة أبداً، فهذه البنية الأحادية أضحت سبباً لنقد السلطة والتمرّد عليها، إضافة إلى تأثر العالم العربي، وخصوصا شبابه اليافع، بالتطورات العالمية بعد ظهور وسائل الاتصال المعاصرة، واستخدامها الواسع في حياتنا، فقد شكّلت هذه الوسائل عاملاً رئيساً في توجيه الربيع العربي وبوصلته العامة، حتى إن بعضهم يراها ثورة "تويتر" وثورة "فيسبوك"؛ نتيجة أثرهما الكبير في تنظيم المظاهرات الشعبية وقدرتهما على التأثير في مسار الأحداث، بفضل ما وفرته من قدرةٍ فائقةٍ على التواصل بين الشباب النابض حيوية ونشاطاً.

الثورة السورية في المناهج التركية
لم يكن اهتمام الكتب الدراسية التركية بالحالة السورية كالاهتمام بغيرها من دول الربيع العربي، بل حظيت بمساحة خاصة، تدرّجت فيها مادة الدراسات الاجتماعية من الصف الأول الابتدائي حتى نهاية المرحلة الثانوية مروراً بالمرحلة المتوسطة؛ نظراً إلى أهمية سورية وخصوصيتها بالنسبة إلى تركيا من بين دول الربيع العربي الأخرى، فهي الدولة التي تربطها مع تركيا أطول حدود برّية لها مع جيرانها (أكثر من 911 كم)، و12 بوابة حدودية، إضافة إلى تعقيدات القضايا المشتركة الدينية أو القومية أو الإثنية أو الطائفية بين الدولتين، يضاف إليها خصوصية الروابط التاريخية والحضارية التي تربطها بسورية (شام شريف) التي كانت دائماً بوابة التوجه التركي نحو العالم العربي.

كان لافتاً تأكيد المناهج الدراسية التركية على التطابق الكبير في سياسات النظام البعثي بين سورية والعراق

كما الخطاب الإعلامي والديني والاجتماعي، جسّد أيضاً الخطاب التربوي الذي قدّمته المناهج التعليمية الموقف السياسي للحكومة التركية الذي تبنّته تجاه الأحداث السورية، بوقوفها إلى جانب الشعب السوري ضد نظامه الاستبدادي وتاريخه الإجرامي. لم تقدّم المناهج الدراسية التركية القضية السورية بأحداثها عام 2011 فقط، بل عادت إلى جذورها المتمثلة بسيطرة حزب البعث على السلطة والانقلاب العسكري الذي قام به حافظ الأسد عام 1970، ثم تناولت جماعة الإخوان المسلمين بوصفها ثورة سياسية معارضة للسياسات الأسدية الظالمة، الأمر الذي أدّى إلى أحداث مذبحة حماة الدامية في الثمانينيات من القرن المنصرم، وراح ضحيتها آلاف من السوريين. وكان لافتاً تأكيد المناهج الدراسية التركية على التطابق الكبير في سياسات النظام البعثي بين سورية والعراق، إضافة إلى تشابه الحكم الطائفي والعائلي بين حافظ الأسد وصدّام حسين. لذلك كان من الطبيعي أن يتشابه مصير البلدين في الخراب والدمار، على الرغم من اختلاف ولاء قادتهما على المستوى الدولي، إذ يشار في هذه المناهج إلى أن العراق بقيادة صدّام كان حليفاً للولايات المتحدة على الأقل حتى حرب الخليج الثانية 1991، في حين أن سورية بقيادة حافظ الأسد كانت في صف الاتحاد السوفيتي، فإذا كان صدّام حسين رجل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإن حافظ الأسد رجل الاتحاد السوفيتي في المنطقة ذاتها.
تفسّر المناهج التركية الأحداث السورية عام 2011 أنها جزء من حركة الربيع العربي، عندما طالب السوريون بالحرية والديمقراطية والعدالة، لكن النظام الأسدي استخدم القوة العسكرية لقتلهم وتشريدهم في بقاع الأرض. كما ركّزت هذه المناهج على قضية اللجوء، بعد أن تحوّلت إلى أزمة دولية، مع تأكيدها أن تركيا من أكثر الدول استقبالاً للاجئين السوريين بسبب الحرب الدائرة في بلدهم؛ لأنها تقف دوماً إلى جانب المظلومين والمقهورين في العالم، إضافة إلى أنها قد شرحت سياسة الباب المفتوح التي اتّبعتها الحكومة التركية في استقبال اللاجئين السوريين الفارّين من العمليات العسكرية التي شنها النظام الأسدي ضد الشعب السوري على حدودها الجنوبية، بعد فشل جهودها الدبلوماسية في المصالحة بين النظام والشعب لمنع حدوث الكارثة السورية، لذلك دعمت تركيا المعارضة السورية، ووقفت إلى جانب المظلومين السوريين. يضاف إليها تأكيد هذه المناهج الدراسية أن الأحداث السورية تشكل تهديداً كبيراً للأمن القومي التركي، وخصوصا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وحزب العمال الكردستاني المصنفين على لائحة الإرهاب لدى الحكومة التركية.

جاء وجود القضية السورية في المناهج نتيجة حاجاتٍ عملية يفرضها وجود نحو أربعة ملايين لاجئ سوري، يعيشون في مختلف الولايات التركية

لم يكن وجود القضية السورية وسردية أسبابها وتطوراتها في المناهج الدراسية التركية لغاياتٍ نظريةٍ تتعلق برغبة الحكومة في تعريف طلابها إلى أحداث تاريخية أو معاصرة مرتبطة بجيران تركيا، بل جاء نتيجة حاجاتٍ عملية يفرضها وجود نحو أربعة ملايين لاجئ سوري، يعيشون في مختلف الولايات التركية، ومنهم ما يقارب المليون طالب سوري يدرسون في المدارس التركية إلى جانب أقرانهم الأتراك، بعد عملية دمجهم فيها نهاية عام 2016، فهذه المناهج يُناط بها أن تكون وسيلةً ليس فقط لصناعة التكيّف المدرسي بين الطلاب اللاجئين السوريين والطلاب الأتراك، بل أن تكون جسراً لعملية الاندماج الاجتماعي العام الذي تنشده الحكومة التركية بين مواطنيها واللاجئين السوريين، لمواجهة المشكلات الناشئة بينهما في مدنٍ عديدة. ولذلك حفلت دورس الدراسات الاجتماعية، وفي كل المراحل الدراسية ما قبل الجامعية، بحضور ثقافة الترحيب بالضيوف السوريين، وتفهم أسباب لجوئهم إلى تركيا، وتقديم المساعدات المختلفة من الطلاب أو مدرّسيهم، فذكرت الحوادث التي تقاسم فيها الطلاب الأتراك ممتلكاتهم الخاصة مع إخوتهم السوريين. لتأكيد قيم التعايش وقبول الآخر في إهاب إنساني وأخلاقي تجاه اللاجئين السوريين، من دون تمييز عرقي أو ديني أو طائفي وغيره.
الأفكار والمعلومات التي تحفل بها الكتب الدراسية التركية عن سورية وتاريخها وموقعها الجغرافي والحضاري وأهميتها بالنسبة لتركيا في المناهج الدراسية التركية لا تقتصر فائدته وجدواه على الطلاب الأتراك، بل تمتد آثاره الإيجابية إلى الطرف الثاني من معادلة التكيف الاجتماعي، أي إلى الطلاب اللاجئين السوريين الذين يرتادون المدارس ذاتها التي يذهب إليها الطلاب الأتراك، بل تشكّل فرصة ثمينة للطلاب السوريين، كي يقدّموا ثقافتهم وحضارتهم لزملائهم الأتراك، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على الهدف العام الذي تنشدُه الحكومة التركية في سياساتها تجاه اللاجئين السوريين.

خلت المناهج الدراسية التي فرضتها وزارة التربية في الحكومة المؤقتة على الطلاب اللاجئين السوريين في تركيا أو الداخل السوري من تقديم سرديتها للربيع العربي

يُحسب للمناهج الدراسية التركية استجابتها السريعة للمتغيرات الكبرى، وتضمينها في مفرداتها العلمية، منها: تناول مفهوم الربيع العربي وأسبابه وأحداثه، وأيضاً الكارثة السورية الغائبة بشكل كامل عن المناهج الدراسية للنظام السوري، والتي تجاهلت، بشكل مقصود، كل الأحداث الكبرى في سورية منذ عشر سنوات، بل لا مبالغة أبداً في القول إن المناهج الدراسية التركية تحضر فيها قضية السوريين ومشكلات لجوئهم أكثر بكثير مما حضرت في المناهج الدراسية السورية الجديدة، حتى في الكتب المدرسية التي غيرّها النظام الأسدي بعد عام 2017، لأن الأخيرة تتجاهل مشكلات السوريين ونزوحهم ولجوءهم وخرابهم الاجتماعي، بل تعامت عن واقعهم المرير، واختصرت مشكلاتهم بالبطالة والازدحام المروري، كما قدّمها كتاب التربية الوطنية لطلاب الصف التاسع في توصيفه مشكلات المجتمع العربي السوري وحلولها.
وربما نتفهم عدم حضور قضية السوريين وسردية مأساتهم الكبرى في المناهج الدراسية التي يفرضها النظام الأسدي على السوريين، إذ كيف سينصفهم، وهو الذي قتلهم وحاصرهم وهجّرهم. لكن الغريب والمريب أن تكون المناهج الدراسية التي فرضتها وزارة التربية في الحكومة المؤقتة على الطلاب اللاجئين السوريين في تركيا أو الداخل السوري قد خلت تماماً من تقديم سرديتها للربيع العربي، أو سردية الثورة السورية، أو حتى تضمين قيمها الأساسية في الحرية والكرمة والعدالة، بل تبنّت مناهج النظام السوري كاملة مع إجراء تعديلات شكلية، اكتفت فيها بإزالة صور الأسد الأب والابن وأقوالهما، من دون أن تنتبه إلى الغاية الرئيسة الضمنية الخفيّة، التي تروم المناهج الأسدية الوصول إليها، وهي التربية على الاستبداد وتعميم قيمه في كل ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية أيضاً.

محمد نور النمر
محمد نور النمر
باحث سوري في القضايا الفكرية والاجتماعية