مدارس الأئمة والخطباء في تركيا بين السياسة والتربية
ما زالت الآراء مختلفة بشأن تفسير التجربة التركية، منذ بزوغها مطلع القرن الواحد والعشرين، وأغلب هذه التفسيرات تنحو منحىً سياسياً، كالحديث عن دور الأرضية العلمانية الأتاتوركية الصلبة في تأسيس الدولة التركية العصرية، واستجابة العلمانية الليّنة التي جسّدتها رؤية حزب العدالة والتنمية إلى تحوّلات القرن الجديد، عندما تصالحت هذه العلمانية مع منظومة الحداثة السياسية وقيمها المعاصرة في إطارٍ جديدٍ لم يجرّبه الإسلام السياسي من قبل.
قليلة هي المقاربات غير السياسية للتجربة التركية، وإحداها، على سبيل المثال، المقاربة التربوية، والمقصود بها الدور الذي لعبته مدارس الأئمة والخطباء في نجاح التجربة التركية، وكيف شكّلت رهان الاتجاه الإسلامي في تحقيق نهضة الأمة وتقدّمها وازدهارها، وهو التيار الذي راهن على خوض غمار السياسة والتأثير في مفاعيلها، الأمر الذي أفضى إلى وصول تلاميذ الأئمة والخطباء أو المؤمنين بفكرتها الرئيسة إلى السلطة منذ عام 2002.
المسار السياسي
يعود تاريخ التعليم التركي، بجذوره، إلى مرحلة الدولة العثمانية، وقد ساد في المائة عام الأخيرة من عهدها نوعان من المدارس: كلاسيكية: وهي المدارس الدينية والزوايا الصوفية المنتشرة في الدولة العثمانية آنذاك، منها المدرسة السليمانية، مدرسة الفاتح، مدارس الأئمة والخطباء أو مدارس الوعاظ كما كانت تسمّى في العهد العثماني، وغيرها. الحديثة: وهي التي افتتحها السلطان عبد الحميد على الطراز الغربي، ومنها: دار الفنون، والمدارس العسكرية، والمدرسة البحرية، وكليات المعلمات والمعلمين، والمدرسة الطبية، وقد واجهت هذه المدارس في بداية عهدها مشكلات كثيرة: منها مشكلة المدرّسين المختصين، ومشكلة المناهج الدراسية المناسبة، وكانت أغلبها مترجمة من اللغات الأوروبية، وخصوصاً اللغة الفرنسية. ما بعد الحرب العالمية الأولى، أصبح خرّيجو هذه المدارس عنصراً مؤثراً في الميادين العلمية التركية، أطباء ومهندسين ومعلمين وغيرهم، مع العلم أن النموذج الفرنسي للحداثة الغريبة هو المهيمن على تصوّرات خرّيجي هذه المدراس وأساتذتها.
مع بداية العهد الجمهوري عام 1923، شهد التعليم التركي التحوّل الأكبر في تاريخه على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي أقام المدارس الحديثة وفق النمط الأوروبي، فألغى المدارس الدينية والزوايا الصوفية، وأتبع المدارس لوزارة التعليم، بعد أن كانت مستقلةً عن الدولة وتابعةً للجمعيات الدينية في زمن الدولة العثمانية، وفقاً لقانون توحيد التدريسيات عام 1924، والذي ينصّ على أن كل المؤسسات العلمية والتعليمية تابعة لوزارة التربية التركية (أو وزارة المعارف كما كان اسمها في ذاك الزمان). وبموجب هذا القرار، أصبحت كل المدارس التي تشرف عليها الأوقاف تابعة لوزارة التربية التركية، إضافة إلى نقل المبالغ المالية المرتبطة بمدارس الأوقاف من وزارة الأوقاف إلى وزارة التربية.
ألغى أتاتورك المدارس الدينية والزوايا الصوفية، وأتبع المدارس لوزارة التعليم
في مطلع القرن العشرين، سيطرت ثلاثة تيارات أساسية على الحياة الفكرية والسياسية العثمانية: أولها الاتجاه القومي المتكئ على التراث القومي التركي. وثانيها التيار الحداثي الذي يستند إلى أفكار الحداثة الأوروبية، وثالثها، وهو أقوى هذه التيارات، الاتجاه الإسلامي الذي كان يضم النخبة العثمانية آنذاك. قام كمال أتاتورك بتوحيد التيار الحداثي التغريبي مع التيار القومي في إطار جديد سُمي، لاحقاً، العقيدة الأتاتوركية التي تحكم تركيا منذ ذاك الوقت، وهي العقيدة التي تبنت العلمانية الصلبة في موقفها من الدين. لذلك حاربت الاتجاه الديني، وسعت إلى القضاء على رموزه بطرق شتى، منها: إبعادهم خارج تركيا إلى مصر (محمد عاطف، شيخ الإسلام مصطفى صبري، زاهد الكوثري)، أو وضعهم في السجون (مثل سعيد النورسي) أو حتى إعدامهم (مثل محمد عاطف الإسكيلبلي)، بسبب عدم ارتدائه القبعة الحداثية بدلاً من العمامة الإسلامية آنذاك. وتوّجت حملة القضاء على رموز الاتجاه الديني بإغلاق مدراس الأئمة والخطباء عام 1931.
بعد إغلاق هذه المدراس عشرين سنة استمرّت فيها سلطة الحزب الواحد، ونتيجة متغيرات خارجية تمثلت بتغيير البراديغم (النموذج) التركي الذي فرضته نتائج الحرب البادرة بالوقوف إلى جانب الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي، جرت تحولات داخلية، تمثلت بوصول الحزب الديموقراطي إلى السلطة عام 1951، نتيجة للتحالف، غير العلني، بينه وبين التيار الإسلامي، وخصوصاً عندما طلب الحزب من زعماء الطرق الصوفية والزوايا (المحظورة آنذاك) التصويت له في الانتخابات، ليصبح بذلك الكفّة المعادلة للجيش والنخبة العلمانية الصُلبة في السياسة التركية، وقد أعلن بعد فوزه في الانتخابات قراراتٍ عديدة: إعادة رفع الأذان باللغة العربية، والسماح بتدريس الدين الإسلامي في المدارس، وإصدار المجلات والكتب الإسلامية. إلا أن القرارات لم تدم طويلاً بسبب الانقلاب عليها عام 1960، وإعدام زعيم الحزب الديموقراطي، عدنان مندريس، الذي اُتهم بمحاولة قلب النظام العلماني، وتأسيس دولة دينية بحسب ادّعاء المحكمة آنذاك، لذلك مُنِع خرّيجو هذه المدارس من دخول الكليات الجامعية كافة.
لعب دخول التيار الإسلامي الحياة البرلمانية التركية، ممثلاً بتيار نجم الدين أربكان، دوراً كبيراً في رفع نسبة الأئمة والخطباء في التعليم العام
لعب دخول التيار الإسلامي الحياة البرلمانية التركية، ممثلاً بتيار نجم الدين أربكان، دوراً كبيراً في رفع نسبة الأئمة والخطباء في التعليم العام من 24% إلى 35%، وساهمت في هذا التغير عوامل عديدة، أهمها: الحكومات المحافظة التي دخلها الإسلاميون، حين مثلهم أربكان في حكومات عام 1973، وعام 1978، إضافة إلى استقطاب المؤمنين بهذه المدراس ودورهم في الانتخابات السياسية آنذاك. أما العامل الثاني فهو هجرة أهل الريف إلى المدن الكبرى، وتفضيل أبنائهم هذه المدارس وزيادة الطلب عليها.
بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، سعت تركيا، بعد الانقلاب الليبرالي الذي تبنّى سياسة الانفتاح الحر لتركيا، سياسياً واقتصادياً وإعلامياً وتربوياً، إلى مواجهة امتداد إيديولوجيا الثورة الإيرانية من خلال تكوين جبهةٍ داخليةٍ قويةٍ قائمةٍ على استنهاض الإسلام التركي، الذي تمثل، لأول مرة، بفرض مادة دينية أصبحت درساً إجبارياً، وليس اختيارياً كما هي العادة، إضافة إلى السماح لخرّيجي هذه مدارس الأئمة والخطباء (وزيادة أعدادهم) بدخول الكليات الجامعية التي يرغبون في الدراسة فيها. أدّى هذا إلى دخول خرّيجي الأئمة والخطباء جميع ميادين الحياة التركية، اقتصادياً وفكرياً وسياسياً وتربوياً، الأمر الذي استفزّ أصحاب العلمانية الصلبة ودفعهم إلى انقلاب 1997. وكانت أولى قرارته إغلاق مدارس الأئمة والخطباء المتوسطة، وقبول خرّيجي ثانوياتها فقط في كليات الإلهيات، ومنعهم من دخول الكليات العلمية الأخرى.
مشروع تربوي
شكّل وصول حزب العدالة والتنمية، بوصفه من تيارات الإسلام السياسي التركي المعاصر، عام 2002، إلى السلطة، نقطة تحقيق الحلم، فقد أُعيد افتتاح المدارس المتوسطة للأئمة والخطباء، وتوسّع في زيادة أعدادها في الولايات التركية كافة، وسمح لخرّيجيها بدخول الكليات الجامعية التي يفضلونها، بل وعملت وزارة التربية التركية بعدها على تطوير الفكرة وتعميقها، بجعل بعضها قسماً كبيراً من خريجي مدارس النخبة يدخل الكليات العلمية، كالطب والهندسة والطيران وغيرها، من دون تمييز عن خرّيجي المدراس العلمية الأخرى، وأصبحت مؤسسات الدولة هي التي تبني المدارس، بعد أن كانت تُبنى من أموال المتبرّعين المؤمنين بدورها وأهميتها بالنسبة إلى المسلم التركي، ثم تسلّم إلى وزارة التربية والتعليم، إضافة إلى تسلّم خرّيجي هذه المدارس مناصب سياسية عليا، تمكّنهم من المشاركة الفاعلة في إدارة البلاد، بعد أن حرموا منها عقوداً طويلة.
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، أُعيد افتتاح المدارس المتوسطة للأئمة والخطباء، وتوسّع في زيادة أعدادها في الولايات التركية كافة
لم تكن مدارس الأئمة والخطباء مشروعاً لتيار الإسلام السياسي التركي فحسب، بل كانت أيضاً مشروع تيار الإصلاح التربوي، فهي الفكرة الأساس في برنامجه النهضوي، لأنها مدارس دينية تجمع بين التعليم الديني (عقيدة وفقه وتفسير) والتعليم العلمي (الرياضيات والفيزياء والكيمياء والدراسات الاجتماعية).
ولئن كان الإصلاح التربوي واحداً من رؤى الاتجاه الإسلامي التركي المتعدّدة منذ مرحلة تأسيس الجمهورية، كان من الطبيعي أن يكون له منذ بداياته منظّرون، وجمعيات وسياسيون، وحتى طرق صوفية تقف وراءه وتدعم حضوره في الحياة التركية. ويعدّ الأكاديمي خير الدين كرمان من أهم منظّري هذا الاتجاه (1934)، وهو تلميذ المربّي الكبير جلال الدين أوكتان (1882- 1961) الذي ساهم في إعادة فتح مدارس الأئمة والخطباء وإدارتها من جديد عام 1951م بعد إغلاقها لمدة عشرين عاماً، فقد أكمل ما بدأه أستاذه، وساهم في صياغة المناهج التعليمية الدينية لمدارس الأئمة والخطباء (فقه وتفسير وعقيدة وتصوّف)، وبيّن، في كتبه المتعدّدة، دورها في التوفيق بين علوم الدين وعلوم الدنيا لتحقيق نهضة الأمة وتقدّمها.
لم تكن مدارس الأئمة والخطباء مشروعاً لتيار الإسلام السياسي التركي فحسب، بل كانت أيضاً مشروع تيار الإصلاح التربوي
لا يقتصر الأمر على التأصيل الفكري النظري لهذا التوجه، بل اتخذ شكلاً عملياً تجلّى بدعم متنوع لمنظمات المجتمع التركي الكبرى لهذا الفكرة، منها جميعة وقف الأنصار (Ensar Vakfı) التي اختصت بالدعم العلمي والفكري، من خلال دار نشر كبرى تولت طباعة الكتب والمجلات الدينية التي تخدم هذه الاتجاه وتعزّزه. أما جمعية نشر العلم (İlim Yayma Cemiyeti) فتضم في صفوفها الطلاب والأساتذة (تدعمهم مادياً في الإعاشة والمبيت والخدمات الأخرى في كل الولايات التركية، كما تقدم خلال الإقامة برامجها الدينية التي تخدم هذا التوجه وتدعمه). في حين شكّلت جمعية منتسبي الأئمة والخطباء (Önder- İmam Hatip Mezun ve Mensupları) المظلة السياسية التي نهضت بمهمة الدفاع عنهم سياسياً وقوننتها برلمانياً في بلدٍ تحكمه العلمانية الصلبة منذ العقد الثاني من القرن المنصرم، فضلاً عن الدور الأهم الذي قام به كبار السياسيين من الاتجاه الإسلامي منذ سبعينيات القرن العشرين، مثل نجم الدين أربكان وتلاميذه الذين شكلوا فيما بعد حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، وما شكله ذلك من تكوين رمزية السلطة في أفئدة طلبة هذه المدارس، ليس فقط أن زعيم البلاد هو من خرّيجي هذه البلاد، بل أيضاً ما تتركه الرمزية من أثر في إمكانية مشاركتهم الفاعلة مستقبلاً في إدارة البلاد، والمساهمة في تقدّمها.
لا تمثّل مدارس الأئمة والخطباء، فيما يخص تيار الإسلام السياسي التركي المعاصر، المستوى النظري (السياسي) لرؤيتهم الفكرية في تصالح تركيا مع هويتها الحضارية التي قضمتها العلمانية الصلبة، بل تجسّد أيضاً المستوى العملي (التربوي) في قدرتها على تكوين جيل واسع من الشباب التركي قادر على التوفيق بين منظومته الحضارية والقيم المعاصرة بإطار جديد كان له الدور الرئيس في صناعة تركيا الجديدة التي نراها الآن.