الحروب تلد أبطالها .. زيلينسكي مثالاً

الحروب تلد أبطالها .. زيلينسكي مثالاً

12 ابريل 2022

زيلينسكي في كييف (9/4/2022/الأناضول)

+ الخط -

يصعب على المرء في بلادنا إبداء الإعجاب بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من دون تحفظ، ويصعب إطراء مواقفه إزاء الغزو الروسي لبلاده بالجملة، ليس لمعتقداته الدينية أو لخلفيته القومية، أو غير ذلك من انطباعات تشكلت عن شخصية الممثل الكوميدي، وإنما لسقطاته السياسية المتكرّرة، وابتزازه المبالغ به العواطف الغربية، وفهمه القاصر للصراع التاريخي في هذه المنطقة، وفي القلب من ذلك دفاعه المقيت عن آخر وأطول احتلال فاشي في العصر الحديث، ودعوته مثيرة الاشمئزاز إلى استلهام بواطن نموذج عنصري بائس، بإقامة إسرائيل كبيرة في أوروبا، ذات قوة أكبر، وسلاح أشدّ فتكاً، لمقارعة التطلّعات الإمبراطورية الروسية.
إلا أن كل هذه التحفظات والاستدراكات، وغيرها الكثير، لا تُجيز إغفال الحقيقة المتجلية في أوكرانيا هذه الآونة، أو تحاشي إجراء المقاربات الصحيحة، المتعلقة بمجمل المشهد الجاري تظهيره في كييف وشقيقاتها منذ الغزو الروسي قبل نحو سبعة أسابيع دامية، بما في ذلك صور من المجازر المروّعة، المدن المدمّرة، وطوابير اللاجئين، مقابل صور أخرى من الصمود والمقاومة المدهشة لآلةٍ حربيةٍ هائلة، وفوق ذلك كله قيادة سياسية، وقف على رأسها زيلينسكي بشجاعة، فاجأت الأصدقاء قبل الأعداء، حتى لا نقول إنها فاجأت نفسها.
ما حدث ويحدث في الحرب الأوكرانية الجارية فصولاً ليس استثناءً على القاعدة الذهبية لجل المواجهات العسكرية الكبيرة، وما صنعه زيلينسكي، بوقفته الجريئة في وجه الغول، لم يكن سابقة غير مسبوقة، فالحرب في أحد وجوهها كالمرأة في مخاضها، تلد بطلها، تضع على رأسه الأكاليل، تُخلّد اسمه، وتجعل منه قدوةً تقتدي بها الأجيال اللاحقة، حيث يزخر التاريخان، القديم والمعاصر معاً، بنماذج ملهمة، بأسماء رجالٍ أفذاذ لا يسقطون من الذاكرة، سطّر فيها القائد السياسي الشجاع لشعب تعرّض للاحتلال مأثرةً كبرى، قلب التوقعات المسبقة، وكان له الفضل في صنع الإعجاز، رغم قلة الإمكانات وتفاوت القدرات.
من بين أمثلة عديدة حاضرة في الأذهان المثخنة لشعوبنا العربية، وحكايا لأبطال معارك فاصلة وحروب طاحنة، من الواقعي، وبلا تعسّف انتقائي، اختيار اسمين لقائدين شجاعين بارزين، كان أداؤهما السياسي لسير المنازلات العسكرية وإدارة المواجهات غير المتكافئة بمثابة النقطة التي أحدثت الفرق، وصنعت ما يشبه الملحمة: جمال عبد الناصر في معركة السويس عام 1956، حيث حوّل البكباشي، ابن الثلاثين سنة، الهزيمة العسكرية الساحقة الى نصر سياسي باهر، برفضه الاستسلام أمام دول العدوان الثلاثي. وياسر عرفات إبّان غزو بيروت عام 1988، وهو الذي جعل الخروج من العاصمة اللبنانية بمثابة خطوة أولى على طريق العودة، وسط حفاوة استقبال شعبي تليق بقائد حركة تحرّر وطني.
في معركة السويس، أصاب الذعر بعض قادة ما كان، حتى ذلك الوقت، مجرّد انقلاب عسكري، ومال عدد منهم إلى تسليم أنفسهم إلى السفارة البريطانية في القاهرة، غير أن عبد الناصر مضى إلى الجامع الأزهر، اعتلى المنبر، وقال بصوته الجهوري "حنحارب" فكانت تلك هي اللحظة السياسية التي صنعت منه قائداً لا يُجارى طوال سنوات حكمه التالية. وفي معركة بيروت ذات الـ88 يوماً من الصمود، سُئل عرفات قبل أن يركب الباخرة "إلى أين يا أبا عمّار" فردّ: إلى فلسطين. .. ولمّا وصل إلى فاس، حيث كانت القمة الطارئة، خرج القادة العرب (باستثناء حافظ الأسد) إلى المطار لاستقبال من صار زعيماً لا يُشقّ لجواده غُبار.
يحضر هذان القائدان العربيان، اللذان قد يختلف مع إرثهما كثيرون بيننا، في معرض مقاربة المشهد الأوكراني المتغيّر كل يوم، حيث أعاد الرئيس الأوكراني إلى الذاكرة الغضّة، البطولة الفردية إلى تمام قوسها، واستعاد، بوقفته تلك، كامل نصاب القيادة، عندما رفض عرض جو بايدن له الانتقال بطائرة أميركية إلى بولندا وإقامة حكومة في المنفى، حيث رد العدو الأول للغزاة الروس، قائلاً إنه يريد طائرة يحارب بها الاحتلال، فكانت تلك هي اللحظة السياسية التي جعلت زيلينسكي بطلاً يُصفق له الأوكرانيون، ويُصغي لحديثه المتلفز أعضاء برلمانات الغرب باحترام وإعجاب شديدين، الأمر الذي أكسب أوكرانيا دعماً عسكرياً ومالياً ودبلوماسياً لم يحظ بمثله بلد آخر على وجه الأرض، كما جعل الكوميديان، العارف بكيفية مخاطبة الرأي العام، فائزاً ومن دون منازع بمعركة الصورة التي لا تقلّ أهمية عن المعركة في الميدان.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي