الحرب والكتابة.. أية علاقة؟

الحرب والكتابة.. أية علاقة؟

28 مارس 2022

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

تتعدّد العلاقة التأثيرية للحرب بالكتابة، وتأخذ تجليات عديدة، فإلى جانب التعبير الآني الذي أكثر ما يمثله الشعر والمقالات والنصوص الجوانية، نجد الرواية التي يمكنها أن تستحضر الحروب بعد وقت ومسافة زمنية، سواء من خلال الذاكرة بتفاصيلها المستعادة سرديا، أو عبر التاريخ بتخيله وملء فراغاته المفقودة. كما يمكن للحرب أن تشكل انعطافاتٍ وتحولاتٍ، سواء على مستوى المسار الشخصي للكاتب، أو على مستوى المسار النوعي للكتابة نفسها. على ذلك المستوى الشخصي، يمكن إيراد مجموعة من النماذج، مثلا باستحضار مقولة إدوارد سعيد " لم أعد الإنسان ذاته بعد 1967"، حين أحدثت الهزيمة داخله هزة عنيفة. ولكن لحسن حظنا (وحسن حظ العالم ربما) أن سعيد حوّلها (الهزيمة) إلى وقود معرفي فعّال، حين اندفع إلى البحث والقراءة وتعلم اللغة العربية، وهو ابن الثقافة الغربية بامتياز. ولم يكتف بذلك، إنما تعلم حتى الإيطالية، من أجل قراءة أنطونيو غرامشي مباشرة في لغته، وهذا التحول والإصرار ساهم في انبثاق مؤلفاتٍ تأثر بها حتى هنود آسيا ناهيك عن أروقة الجامعات الغربية. سلسلة من الكتب لم يقطعها سوى الموت، تنتصر في موضوعاتها للحق الإنساني، كما لخّص ذلك ريموند وليامز في عبارة جامعة "إدوارد سعيد هبة الحق في كل مكان". وفي الجانب المقابل، نجد شاعرا مغربيا مرهفا، أحمد المجاطي، ساهمت الهزيمة نفسها في ارتكانه إلى الصمت وفي انكفائه على ذاته، يلخّص ذلك الشعور عبارته الشعرية البليغة "تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة". وعلى مستوى التحول العام للأدب الذي تُحدثه الحرب، يكفي أن نستحضر الشعر الجاهلي الذي كان في عمقه نداء إدانةٍ متقطع لهذه الحروب التي مزّقت الحياة في بادية العرب، وإنْ تبدّى الفخر في كثير من صورها، فإن ذلك مردّه طبيعة اللحظة ونوع المقاومة الحاصلة من أجل البقاء، حين لا بقاء إلا للأقوى. وكان بينهم من لخص الحرب في عبارات بليغة تدور معانيها عبر الأزمان، كقول زهير بن أبي سلمى: "وما الحرب إلا ما عرفتم وذقتم/ وما هو عنها بالحديث المرجم"، أي أن الحديث عن هذه الحرب دائم في حياتنا ولا ينقطع، ولا يأتي الحديث عنه منجّما بسبب ديمومته.

لذلك، الشعر الجاهلي، في عمقه، هو نتاج صراع بقاء، هدأت أنفاسه اللافحة وأخذت مسارات جديدة، ما إن تأسست دولة المدينة بانتشار الإسلام وإرساء نظم جامعة للحياة. وفي الرواية، جاء عديد منها في هذا السياق، فعربيا أنتج الصراع العربي الإسرائيلي، سواء في فلسطين أم في لبنان، روايات كثيرة، الأمر نفسه في مغرب الوطن العربي، وخصوصا مع الرواية الجزائرية، حيث نقف على شريحة ضخمة من الروايات ما بعد كولونيالية. وعالميا، أتذكّر رواية "نهر على جسر درينا" لليوغسلافي، إيفو أندريتش، التي تأثر بها الألباني إسماعيل كادريه في روايته "الجسر"، واثنتاهما عن مفاعيل الوجود التركي في دولتيهما، ولكن بفنية عالية، كما تأثر برواية أندريتش عبد الرحمن منيف في روايته "حين تركنا الجسر". ويمكن كذلك، في إطار علاقة الأدب بالحرب، ذكر اليوناني نيكوس كازنتزاكي في رائعته "الحرية أو الموت".. والقائمة تطول.

وعلى المستوى الشخصي، تشكل الحرب متابعة شخصية لصيقة، فرغم أنها جغرافيا بعيدة، إلا أن المشاعر تقرّبها وتوحدها. ولا أظن أي مثقف عربي، مهما بعدت به المسافات، يمكنه ألا يتفاعل مثلا مع قضية إنسانية عادلة كالقضية الفلسطينية، التي كُتب لها أن تعيش حربا طويلة متقطعة، الاستراحة فيها بمثابة ترقّب وتوجس. كما أن الحروب المتفرّقة في رقعتنا الإنسانية المشتركة، والحرب الحالية في أوكرانيا واحدة منها، تؤكّد أن واقعنا ليس "أنيقا" كما قال محمود درويش في أحد حواراته، بل هو نتاج سلسلة وتاريخ من العنف والوحشية. لذلك، يتفاعل الكاتب مع الحروب لحظيا بالمشاهدة والتعليق، كما سيتفاعل مع مآلاتها بعد ذلك، سواء بالكتابة أو بالقراءة للمنجز المأساوي الذي تفرزه الحروب عادة، كما في رواية "فرنكشتاين في بغداد" للعراقي أحمد سعداوي، التي تصوّر العبثية الدموية والوجودية التي أفرزتها حرب عنصرية مارستها على العراق القوي الغربية وبدون هوادة، أو أي اعتبارات إنسانية دنيا.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي