الجنسية والإقامة: لماذا تتغير التشريعات التركية؟

الجنسية والإقامة: لماذا تتغير التشريعات التركية؟

19 مايو 2022

جواز سفر تركي في مطار صبيحة في إسطنبول (2/2/2022/الأناضول)

+ الخط -

حظيت تركيا بسمعة طيبة خلال العقد الماضي، حين استضافت ملايين السوريين إثر اندلاع الحرب. مقارنةً بوضع اللاجئين السوريين في دول الجوار القريب، كانت أوضاع السوريين في تركيا جيدة، حيث فتحت أمامهم سبل الاندماج الاقتصادي والاجتماعي، ووجدوا حرية الحفاظ على ثقافتهم في الأكل واللباس، واستخدام لغتهم العربية، على الرغم من حساسية الأتراك العرقية وافتخارهم المعروف بلغتهم.
قد يكون هذا كله معلوماً للمتابعين، فحتى الزائر العابر يمكنه أن يشاهد بوضوح كيف تلوّنت تركيا بهذه الأعداد الكبيرة التي أضافت الكثير لثقافتها حاملة الازدهار لمجالات جديدة ابتداءً من السياحة والتعليم العالي، وحتى سوق الترجمة والاستثمار العقاري، في وقت كانت فيه البلاد في أمس الحاجة لذلك، وهي تتبع سياسة الانفتاح على العالم العربي.
ما قد يكون معلوماً بشكل أقل حقيقة أن تركيا لا تستضيف السوريين فقط، ولا عرباً آخرين متحدّرين من جنسيات أو خلفيات ثقافية وسياسية معينة، وإنما أيضا، وبفضل سياسة الباب المفتوح التي ظلت أنقرة تتبعها على الأقل منذ عقدين، أصبحت البلاد مكاناً جاذباً لإقامة آلافٍ ممن يختارونها لأسباب اقتصادية أو سياسية أو غيرها، وخير دليل على ذلك فتح تركيا أبوابها، أخيرا، للأوكرانيين الذين اختاروا الإقامة فيها، ما أوضح أن تركيا لمن يقصدها، وأنها لا ترحّب فقط بمن ينتمي لديانتها الغالبة أو ثقافتها، مثلما فعل الأوروبيون الذين اعترفوا بأنهم يعاملون الأوكرانيين بأفضليةٍ لأنهم شقر أو مسيحيون.

لم تتساهل التشريعات التركية فقط في مسألة منح التأشيرات لتسهيل السياحة، ولكنها ابتكرت ما تعرف بالإقامة السياحية، والتي يتمتع صاحبها بإقامة طويلة عاما أو عامين

تركيا بلد سياحي، وهذه الحقيقة مؤثرة جدًا على مسار التشريعات والقوانين، ففي العام 2019 ، وقبل جائحة كورونا، حازت تركيا المرتبة السادسة عالميًا في مجال السياحة بعدد سياح يفوق الخمسين مليون نسمة. وتنافس تركيا غيرها من الوجهات السياحية من خلال تبسيط إجراءات التأشيرة بالنسبة لغالبية الدول، حيث تعد تأشيرتها سهلة المنال مقارنة بالتأشيرات الأوروبية أو حتى تأشيرات الوجهات السياحية العالمية الأخرى. كما تعتبر إسطنبول، أو غيرها من المدن التركية، وجهة سفر مناسبة لأصحاب الميزانيات المتوسطة، حيث تكاد تكلفة الإقامة فيها تساوي نصف نظيراتها في الدول الأوروبية أو ثلثها.
لم تتساهل التشريعات التركية فقط في مسألة منح التأشيرات لتسهيل السياحة، ولكنها ابتكرت ما تعرف بالإقامة السياحية، والتي يتمتع صاحبها بإقامة طويلة عاما أو عامين، تسمح له بالدخول والخروج إلى البلاد من دون التفكير بالتقدم مجدّداً لتأشيرة جديدة، حيث تجدّد الإقامة بشكل تلقائي في حالة تقديم عنوان سكن. وكثيراً ما كان الناس يلجأون لعناوين غير صحيحة، من أجل استكمال الإجراء، كما أنه كثيراً ما كان هذا النوع من الإقامات يستخدم وسيلة للبقاء، ومن ثم البحث عن عمل، على الرغم من أنها لم تكن تأذن بذلك.
يمكن أن نتخيل هنا ما سبّبه ذلك من تكدّس في أعداد المستفيدين الذين أصبحوا من المقيمين، والذين لا يفضل أغلبهم فقط أن يقيم في إسطنبول، وإنما يفضلون أحياء معينة فيها، وهو ما أدّى إلى أن تزدحم هذه الأحياء بالناس، أو أن تصبح فيها كثافة سكانية واضحة لأعداد من المقيمين الأجانب.
أدّى ذلك إلى مراجعة التسهيلات التي كانت متعلقة بالإقامات، حيث أصبحت السلطات أكثر تشدّدًا في إثبات السكن والإقامة في العنوان المحدّد، كما لم يعد منح الإقامات السياحية لفترات طويلة ممكناً، وإنما تجدّد وفق الحاجة.

القانون الذي يمنح الجنسية عن طريق الاستثمار استثنائي صادر في 2018، وفق ما هو موصوف به في عنوانه

من ناحية أخرى، عملت البلديات على دراسة أعداد المقيمين الأجانب، ونسبتهم بالنسبة لأعداد السكان، لتعلن لاحقاً قائمة بأسماء البلديات التي لم يعد استخراج إقامة فيها ممكناً للأجانب الذي ينصحون بالتوجه إلى بلديات جديدة من أجل تخفيف التركز المناطقي.
في ناحية منح الجنسية التركية، كان رفع مبلغ الاستثمار العقاري المطلوب للحصول على الجنسية إلى 400 ألف دولار، بعد أن كان 250 ألفاً، التعديل الأبرز الذي أصبح أمراً واقعاً بعد نشره الجمعة الماضية في الجريدة الرسمية.
إن كان الاستثمار العقاري هو الوسيلة الأكثر شهرة، إلا أنها ليست الطريقة الوحيدة التي يمكن الحصول بها على الجنسية التركية. وهنا ربما يكون من المفيد التذكير بأن أعداد المتجنسين من السوريين، بشكل استثنائي، وصلت إلى 193.293 ألف شخص، وفق ما أعلنه وزير الداخلية التركي سليمان صويلو. يكتسب هذا أهميةً لأنه ينفي أي استهداف من الجهات الرسمية للسوريين، كما تكتسب هذه الإحصائية أهميةً مضاعفة إذا ما قارنا تلك الأعداد بأعداد الحاصلين على الجنسية الأوروبية، أو حتى المتمتعين بالإقامة الدائمة في بلدان مثل بريطانيا أو فرنسا أو سويسرا أو غيرها.
فاجأ الإعلان عن رفع القيمة المطلوبة للتجنس الاستثماري الكثيرين ممن كانوا يطمحون في ترتيب أوضاعهم والتقدّم. ويجب أن نعلم أن القانون الذي يمنح الجنسية عن طريق الاستثمار استثنائي صادر في العام 2018، وفق ما هو موصوف به في عنوانه، ما يعني أنه قابل للتعديل أو الإلغاء في أي وقت، بل هو في الأصل تعديل على قانون سابق، كان يسمح بالحصول على الجنسية مقابل استثمار عقاري يصل إلى مليون دولار.

الراغبون في التملك بغرض الاستثمار أو التجنّس لن تثنيهم القرارات الأخيرة التي وإن أثرت على بعضهم، إلا أنها ستكون مفيدة على النحو العام

ساهم منح الجنسية للمستثمرين في إنعاش سوق العقارات التركية ومقارنة بدول الكاريبي التي تمنح جنسيتها مقابل التبرّع بمبالغ طائلة أو الدول الأوروبية التي تطلب أقلها تكلفة ضعف هذا المبلغ، فقد كانت تركيا خياراً جاذباً، خصوصا بالنسبة لمواطني دول الجوار التي تعاني أغلبها حالةً من التراجع الاقتصادي أو عدم الاستقرار السياسي. لن نستغرب هنا حين نعلم أن المرتبة الأولى في شراء العقارات والمساكن التركية وكذلك المرتبة الأولى في التجنس الاستثماري هي من نصيب الإيرانيين الذين يرون في العروض التركية وسيلةً للتخفف من أعباء الجنسية الإيرانية التي تجعل مجرّد فتح حسابٍ في بلد أجنبي مسألة معقدة بالنسبة لهم.
على النقيض مما يراه بعضهم أن رفع القيمة العقارية المطلوبة قد يؤدي إلى تقليل الطلب على السوق التركي، ترى دراسات منهجية أن هذا القرار سوف يكون مفيداً تجاه إدخال مبالغ مؤثرة بالعملة الأجنبية لدورة المال التركية، كما يرى محللون في سوق الاستثمار أن الراغبين في التملك بغرض الاستثمار أو التجنّس لن تثنيهم هذه القرارات الأخيرة التي وإن أثرت على بعضهم، إلا أنها ستكون مفيدة على النحو العام، وهو ما جرى التأكد منه أخيرا حينما أقبلت أعداد جديدة من المستثمرين الروس على السوق التركي، بعد أن أصبحت أعمالهم في أوروبا أو الولايات المتحدة مهدّدة نتيجة للحرب الروسية على أوكرانيا، فمن المعروف أن تركيا لا تميل إلى الخلط بين السياسة والاستثمار، وهو ما يجعلها بيئة تجارية آمنة.
كل ما سبق لا ينفي أن بعض التشريعات قد تكون متأثّرةً بالخطاب المعادي للأجانب، والذي يحمّل الوافدين والمقيمين وزر كل أزمة اقتصادية ابتداءً بتدهور سعر الليرة ونهاية بالتضخم أو العطالة. نأخذ في الاعتبار هنا أيضاً أن الانتخابات باتت على الأبواب. ولذلك، من الطبيعي أن تكون الأولوية لإرضاء الناخبين الذين، وإن لم يجتمعوا على رفض الوجود الأجنبي، إلا أنهم يدعمون كل إجراء يهدف لتقنين هذا الوجود وتنظيمه.

مدى الفاتح
مدى الفاتح
كاتب وباحث سوداني في باريس، دبلوماسي سابق