الجلاء السوري .. أفكار هدّامة

الجلاء السوري .. أفكار هدّامة

26 ابريل 2020
+ الخط -
عيد الجلاء هو الوحيد الذي كنّا نحتفل به، نحن السوريين، من دون أن نشعر بالخجل. كنا نتهرّب من الاحتفالات والمسيرات والدبكات التي تقام بمناسبة ميلاد حزب البعث، وثورة آذار، وحرب تشرين، والحركة التصحيحية، وإحياء ذكرى مقتل باسل الأسد.. ونحتفل، في الوقت نفسه، بذكرى يوم الجلاء. 
الرفاق الشيوعيون "الفيصليون"، في إدلب، كانوا يذهبون في السابع عشر من إبريل/ نيسان، في حافلات كبيرة، إلى سلقين، يجلسون في كرومها، يأكلون ويشربون، ويلقون الخطابات والأشعار الوطنية التي تمجّد الجلاء، وتذمّ الاستعمار الفرنسي "البغيض". أما الشيوعيون "البكداشيون" فكانوا يذهبون إلى تلةٍ مطلة على بحيرة زيزون، يأكلون ويشربون ويترنّمون بنضالات الشعب السوري التي أجبرت الاستعمار الفرنسي "البغيض" على مغادرة تراب سورية "الطاهر"، ويرقصون على إيقاع أغانٍ تمجّد الشيوعية الأممية، وتهزأ بنظام حسني مبارك، وقناة الجزيرة، والمجتمع المدني!
كانت مفردة "البغيض" تتكرّر ملايين المرات على ألسنة المحتفلين بعيد الجلاء، على الرغم من اختلاف اتجاهاتهم بين ناصريين وبعثيين وشيوعيين، وهي كلمة نافلة بالطبع، إذ طالما أنك تهجو الاستعمار الفرنسي، يومياً، خلال مئة سنة (1920- 2020)، أفلم يفهم سامعُك بعدُ أنه بغيض؟ في مصر كان أبناء الشعب يهتفون في المظاهرات ضد الإنكليز بعبارة: الاستقلال التام أو الموت الزؤام. الكلمة الأخيرة جاءت لإنشاء السجع، وأكاد أجزم أن غالبية المصريين والعرب، وكاتب هذه الأسطر منهم، لا يعرفون معنى "الزؤام"، وحينما عرفنا، بالرجوع إلى القاموس، أنها تعني العاجل، الفوري، استغربنا استخدامها في موضع سيئ، مع أن معناها جيد، فإذا كان الموت سيقع، فليكن زؤاماً أحسن من أن يكون بطيئاً معذّباً.
في يوم الجلاء من سنة 1946، ألقى الرئيس ناظم القدسي كلمة تاريخية مهمة، وردت فيها أفكار لم يستفد منها الزعماء والسياسيون الذي تعاقبوا على حكم سورية حتى تاريخه، والشعب نفسه لم يأخذها بالاعتبار. سمّى القدسي تلك اللحظة التاريخية استقلالاً، بينما دأب الآخرون على تسميتها "جلاء"، وقال إن صيانة الاستقلال قد تكون أشقَّ من الظفر به، وعبّر عن أمله في أن تحافظ الأمة على مساواةٍ لا تفرّق بين الأديان والمذاهب، ولا تقيم وزناً لعصبيات وأعراق وطوائف.
في إحدى حلقات مسلسل "قصر الشوق" المأخوذ عن ثلاثية نجيب محفوظ، يوبّخ أحمد عبد الجواد ابنه كمال، لأنه كتب مقالة عرض فيها نظرية أصل الأنواع لداروين، باعتبارها تتناقضاً مع التفكير المتوارث السائد عن وجود الإنسان على الأرض. يدافع كمال عن نفسه بأنه ليس صاحب النظرية، وإنما نقلها عن عالم إنكليزي اسمه داروين، فتثور ثائرة الأب، وكذلك الأم، ويقولان له: ولد! أتأخذ كلاماً عن الإنكليز الذين قتلوا أخاك فهمي؟!
كانت الشخصيات السياسية السورية التي تعاقبت على إدارة البلاد منذ الأربعينيات أكثر رفضاً لأساليب المستعمر الفرنسي البغيض من رفض أحمد عبد الجواد ما جاء عن الإنكليز. إن استقلال دولة ما ينبغي أن يتحدّد ضمن حدود جغرافية تتفق عليها مكوناتُ شعبها، والحدود المتوفرة للدولة السورية الجديدة موجودة ضمن اتفاقية سايكس بيكو (1916)، وهي الحدود الوحيدة التي يمكن أن تعترف بها الدول العظمى، وفي مقدمتها الدولتان الاستعماريتان "البغيضتان"، بريطانيا وفرنسا. لذا أصرّت معظم القوى السورية الموجودة على الأرض على تسمية يوم 17 إبريل يوم الجلاء، وتركت مفهوم الاستقلال خارج نطاق التداول، ونحن الآن، بعد 74 سنة جلاء، إذا سألت أي سوري: هل تستطيع أن ترسم لي حدود سورية؟ فمن المحتمل أن يفاجأ بسؤالك ويقول: نعم؟
طبعاً لا يعرف، هل يرسمها مع لواء إسكندرون أم بدونه؟ مع الجولان أم بدونه؟ ولكنه، عندما يخرج من شروده سيرتاح قليلاً، لأن البعثيين أفهموه أنها ليست دولة، بل قُطر عربي ينتظر الوحدة الكبرى، والقوميين السوريين قالوا إنها جزء من بلاد الشام، والإسلاميين قالوا إنها جزء من أرض المسلمين.. وهكذا.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...