التجمعات البدوية الفلسطينية: سردية الخوف والمستقبل

التجمّعات البدوية الفلسطينية: سردية الخوف والمستقبل المجهول

07 مارس 2024

بدو فلسطينيون في خيمة في تجمّع القبّون البدوي في الضفة الغربية (العربي الجديد)

+ الخط -

انتهجت الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة سياسات متشابهة نوعاً ما في ما يتعلق بالتجمّعات الرعوية والبدوية، والقائمة على استخدام جميع الوسائل لتهجيرهم؛ ويشمل ذلك العنف المباشر من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، وهدم المنازل ومصادرة الممتلكات وممارسة التطهير العرقي، والحرمان من البنى التحتية والخدمات الأساسية، فضلاً عن التضييق على المراعي وإغلاقها. ومن جهة أُخرى، عملت إسرائيل، إلى جانب العنف المباشر المرئي، على استخدام وسائل تهجير قسري بطيء وطويل المدى تؤدّي إلى تضييق سبل العيش على السكان والسيطرة على المياه والموارد الطبيعية. ويشمل ذلك حرمانهم من مقوّمات الحياة الأساسية المتمثلة في توفير عيادات صحية وشبكات كهرباء ومؤسّسات تعليمية لائقة، ومنع تعبيد طرق المواصلات المؤدية إلى معظم التجمّعات البدوية والرعوية، وهو ما يدفع السكّان إلى سلوك طرق وعرة للوصول إلى الخدمات الرئيسية في القرى الفلسطينية المجاورة، ويعمل بذلك الاستعمار الاستيطاني على جعل معاناة السكان اليومية غير مرئية ولا مسموعة، على عكس أعمال العنف المباشِر التي قد تحظى بتضامن شعبي، ويستنزف طاقاتهم في عمليات بيروقراطية طويلة ومعقدة، لنيل بعض مقومات الحياة الأساسية.

وفي خضم الحرب المفتوحة التي تخوضها التجمعات البدوية في الضفة الغربية، مارست دولة الاحتلال سياسات الضغوط القصوى ضد البدو بغرض ترحيلهم، فقد نفذت، بالشراكة مع مستوطنيها في العام 2023، 1124 انتهاكاً واعتداءً ضد التجمّعات البدوية في الضفة الغربية، وهدمت ورحلت 28 تجمعاً بدوياً ترحيلاً جماعياً وقسرياً، ودمرت وهدمت ست مدارس في التجمّعات البدوية، وأتلفت وخربت محتويات ست مدارس أخرى، هذا فضلاً عن الهجمات الإرهابية التي تنفذها عصابات المستوطنين في المستوطنات الرعوية ضد التجمّعات البدوية، وعمليات الحصار اليومي المفروض على البدو ومواشيهم من سلطات الاحتلال والمستوطنين، وسياسة فرض غرامات باهظة ضد مواشي المواطنين البدو عندما تتنقل في الجبال المجاورة بهدف الرعي، وقد وصلت تلك الغرامات الى مبلغ أربعين ألف دولار كما حدث مع أحد سكّان التجمّعات البدوية في الأغوار الشمالية، عندما فرض عليه مجلس المستوطنات المبلغ نفسه جزاء لدخول أغنامه جبلاً مجاوراً بهدف الرعي، بدعوى أن تلك الأرض تعود ملكيتها لمجلس المستوطنات.

لم نر اهتماماً بقضية التجمّعات البدوية من السلطة الفلسطينية والمؤسّسات الحقوقية والأحزاب الفلسطينية

ما أود قوله إن عملياتٍ تُنفّذ، بشكل يومي، ضد التجمّعات البدوية في الضفة الغربية، فيما دولة الاحتلال تتسلّل بأسلوب همجي وممنهج بمساعدة عصابات المستوطنين الذين يعملون على قدم وساق في تبادل الأدوار لتنفيذ سياسات إرهابية وعنصرية، بهدف اقتلاع التجمعات البدوية وتشريدها، ويخرجون حقدهم الدفين تجاه كل ما هو فلسطيني، ليعيد التاريخ نفسه بنسخته المعاصرة منذ أيام العصابات اليهودية في العام 1948. حينها أوكل جيش الاحتلال مهمّة إرهاب المدنيين وقتلهم وتشريدهم للمستوطنين، بعد أن منحهم غطاءً قانونياً وإعلامياً وكثيراً من المال، فلا عجب، إذ إن القلق الوجودي الذي يعاني منه المحتلون بات يتعاظم بشكلٍ مستمر، وهو بالذات ما يقف خلف قانون الدولة القومية الذي سنّته إسرائيل، فتراها تعيش هوساً أمنياً، رغم أنها الاكثر تسلّحاً كمّاً ونوعاً، سعياً منها إلى التفوّق على جميع أعدائها الفعليين والمحتملين، كما أنها تعيش باستمرار في حالة صراع ديمغرافي مع الفلسطينيين، حتى تكون الغلبة السكّانية لها وليس للآخرين، فبات المواطن الفلسطيني تحديداً البدوي، الذي لا يملك من أمره شيئاً هو من يدفع الفاتورة الباهظة من دمائه بمواجهته محتلاً شرساً ليلاً نهاراً ووقوعه تحت رحمة هجمات المستوطنين، حيث المقاومة هناك من نوع آخر يمكن تسميتها المقاومة الديمغرافية، التي هي، في حقيقة الأمر، قنبلة موقوته في وجه المحتل. ويحدُث ذلك كله أمام نظر العالم الذي يبدو كأنه قد غسل يديه تماماً مما يحدُث متواطئاً وليس غافلاً يتخفى ويدفن رأسه تحت الرمال، بالتزامه صمتاً مُطبقاً لا نعرف له أسباباً، فلا هيئات حقوقية ولا منظمّات دولية، ولا حتى وكالات إعلامية، ترى فيما يحدث اليوم من إجرام وحشي بحق هؤلاء، ما يخدش الشعارات الإنسانية والمعايير المهنية والحقوقية التي تتباهى بها هنا وهناك، ولا يستدعي، حتى ولو بأضعف الإيمان، أن تستنفر مثلاً وتدعو مجلس الأمن أو جامعة الدول العربية لعقد جلسة طارئة، والتي من شأنها ان تبعد هستيريا عدوانها عن أولئك البدو المنكشفين أمام الإحتلال، فكأن هؤلاء شركاء في جرائم الحرب تلك!

استهداف التجمّعات البدوية وتنفيذ المخطّطات الاستيطانية سيعمل على إعادة ترسيم الحدود بعيدة المدى

وفي هذا السياق، وعلى الصعيد الرسمي الفلسطيني، لم نر اهتماماً بقضية التجمّعات البدوية من السلطة الفلسطينية والمؤسّسات الحقوقية والأحزاب الفلسطينية، وتركّز اهتمام مختلف الأطراف على البعد الإنساني لوضع هذه التجمّعات، وكأننا لا نتحدّث عن مواطنين فلسطينيين أصلانيين، إذ تركّزت سياسات السلطة الفلسطينية وتدخّلاتها، على تقديم بعض الدعم الموسمي البسيط لبعض التجمّعات البدوية المستهدفة، الأمر الذي يؤشّر إلى أن الحكومات الفلسطينية المتعاقبة تفتقد أي خطّة أو رؤية لدعم صمود البدو الذين أعلن الاحتلال الحرب عليهم، بل تركتهم يصارعون وحدهم، ففي أعقاب الحديث عن خطّة الضم التي تستهدف المناطق "ج" حيث يقيم البدو، سمعنا عن خطب جوفاء عن دعم البدو. لكنّ مواعيد الحكومة كانت كمواعيد عرقوب، لم تقدّم أيّ دعم للبدو سوى خطابات فارغة لا تفيدهم في شيء. وكان عمل الحكومة وما زال يعتمد على ردّات الفعل، فعلى سبيل المثال، وفي أعقاب ترحيل 28 تجمّعاً بدوياً في العام 2023، لم تقدّم لهم السلطة الفلسطينية إلا مواعيد كانت أوهاماً وسراباً لا تُسمن ولا تغني من جوع لأناس فقدوا كل شيء، بعد هدم بيوتهم ومصادرتها.

وقد رفضت الحكومة الفلسطينية الإعتراف بالتجمّعات البدوية، الأمر الذي سهّل على الاحتلال استهدافهم وترحيلهم، لاعتبارات سياسية ومالية. أما الأحزاب الفلسطينية فقد حذت حذو الحكومة، ولم تتفاعل مع قضايا البدو، ولم تقدّم لهم أي شيء، رغم أن البدو يقومون بمهمّة الحرّاس الطبيعيين للأرض، ويعيشون سردية الخوف على المستقبل وتجويف الأمل في البقاء. وفي حالة تقديم بعض المساعدات للبدو، فإنها كانت مساعداتٍ ذات أهداف شخصية وعديمة الأثر، وتدور جميعها في حلقة مُفرغة، ويتزايد ضعف تأثير هذه التدخّلات بسبب غياب استراتيجيا ورؤية وطنية موحّدة للتعامل مع قضية التجمّعات البدوية.

رفضت الحكومة الفلسطينية الاعتراف بالتجمعات البدوية، الأمر الذي سهل على الاحتلال استهدافهم وترحيلهم، لاعتبارات سياسية ومالية

وتكمن إشكالية النهج الذي تنتهجه الحكومة الفلسطينية في التعامل مع قضية التجمّعات البدوية بأنه يعزّز بقاء الوضع على ما هو عليه، ويستسلم للواقع الاستيطاني الذي تفرضه السلطات الإسرائيلية، كما أنه يعمل على عدم تسييس القضية بعدم ربطها بالسياق الاستعماري الاستيطاني العام، وبمشاريع التهويد ومخطّطات الضم الإسرائيلية التي تستهدف المناطق "ج" التي يسكنها البدو بشكل ممنهج لتوسيع المستعمرات وإحداث تفوّق ديمغرافي لمصلحة الإسرائيليين، كما أن هذا النهج يعمل على إقصاء البدو سكان مناطق "ج" وتهميشهم سياسياً. وضمن هذه المعطيات، ستمنح مشاريع الضم الجديدة للمناطق "ج" والتي يجرى تنفيذها حالياً، دولة الاحتلال فرصة إفراغ المنطقة من أهلها، وإحكام السيطرة على الأرض والموارد الطبيعية. وبذلك، ستكون التجمّعات البدوية والرعوية الأكثر عرضة وهشاشة للتهجير القسري والمستقبل المجهول.

نحلص، مما سبق، إلى القول إن استهداف هذه التجمّعات البدوية وتنفيذ المخطّطات الاستيطانية سيعمل على إعادة ترسيم الحدود بعيدة المدى. وبذلك تبقى ممارسات الصمود اليومية على الأرض التي يبديها سكّان التجمّعات البدوية، بصورة خاصة، عائقاً أمام المخطّطات الإسرائيلية لمحو سكان المنطقة، إلاّ إنها لن تستطيع الصمود طويلاً في غياب الدعم المبني على خطط شاملة وبعيدة المدى، لترسّخ صمود السكان، مع تغيرات المواقف الدولية والإقليمية تجاه إسرائيل التي قد تشرعن الممارسات الاستيطانية في غياب رؤى واستراتيجيات سياسية واضحة للمواجهة.

حسن مليحات
حسن مليحات
كاتب فلسطيني.