الانتخابات في ديار الحرب الدائمة

الانتخابات في ديار الحرب الدائمة

25 فبراير 2022
+ الخط -

لا يذهب المرء إلى الحرب، إذا كان متيقّناً أنّ انتصاره يتساوى في مفاعيله مع الهزيمة. سعي القوى السّياسيّة اللّبنانيّة عموماً إلى خوض الانتخابات، في ظل الهيمنة المطلقة لحزب الله على مفاعيل القرار، ليس سوى خضوع لهذا المنطق. خطابات التّمايز عنه، لا بل وخوض الانتخابات تحت عنوان فتح معركة جديّة لإسقاطه، لا تبدو هزليّة وكاريكاتوريّة فقط، بل ترقى إلى مصافّ الخداع المتعمّد وبيع الأوهام.

تُخاض الانتخابات للإبقاء على الأوضاع القائمة سلطويّاً وتمكينها، حيث يحاول كلّ طرف تحسين وضعه من داخلها، بحيث لا يؤدّي أيّ تعديل في الأحجام إلى تغيير في التّركيبة بشكل عام. المطلوب من البلد دوليّاً في هذه المرحلة الّتي تشهد توقيع اتفاقات ومحاولات ضبط مناطق النّفوذ وتحديدها، أن يحتفظ بحد أدنى من هيكل الدّولة، بغضّ النّظرعن طبيعة هذا الهيكل وما يعتريه من خلل.

يصرّ الغرب على إجراء الانتخابات في موعدها، على الرّغم من معرفته التّامة بعدم جدواها ولكن لا يعنيه الأمر في شيء. لبنان في نظره ليس بلداً قائماً بحدّ ذاته، بل مجرّد مدخل لترتيبات تتجاوزه، وتنشأ على حساب وجوده واستقراره. من هنا تتكاثر الإشارات الدّالة على تطبيع عام مع الوضع القائم والميل إلى إدامته، لا بل شرعنته، عبر تأمين الحد الأدنى من ظروف العيش في مقابل دفن السياسة والقدرة على إنتاجها.

 سعي القوى السّياسيّة اللّبنانيّة عموماً إلى خوض الانتخابات، في ظل الهيمنة المطلقة لحزب الله على مفاعيل القرار، ليس سوى خضوع لهذا المنطق

يكثر الحديث عن تأمين ساعات تغذية قليلة بالكهرباء في الفترة المقبلة بالتّوازي مع رفع التّعرفة، كما يتم العمل على تركيب موازنة تسبق الانتخابات تؤمّن للطبقة السّياسيّة القائمة الموارد اللّازمة للتّفاوض مع صندوق النّقد الدّولي، والاستجابة لشروط الدّول المانحة، ولكنّها، من ناحية أخرى، تخرج معظم اللّبنانيّين من دائرة القدرة على تأمين الحدّ الأدنى من الموارد والاتصال بالتّكنولوجيا وتحوّلهم إلى حشد من البائسين والمتسوّلين. ويكمن هنا تحديداً مشروع الانتخابات وصيغتها الّتي تُجمع القوى السّياسيّة على السّير فيها وإنفاذها.

سبق أن طرحت في الفترة التي تلت انتفاضة تشرين عام 2019 أسئلة كثيرة عن أسباب عدم قيام ثورة شعبيّة عارمة في لبنان، على الرغم من أن الأمور تفاقمت إلى حد كبير، وكانت الإجابات المتسرّعة تذهب في اتجاه ذمّ الشّعب اللّبناني واتهامه بالخنوع والاستكانة. ولكنْ في مثل هذا التّحديد ظلم كبير لعموم اللّبنانيّين، وجهل أو تجاهل مقصود لطبيعة وحجم القوى الّتي يقع على عاتقهم خوض المعركة في وجهها، في غياب حدٍّ أدنى من التّعاطف والتّبني العربي والعالمي.

خاض اللبنانيون ويخوضون معركة ضد كتلة متجانسة وصلبة، تسيطرعلى كلّ شيء في البلاد من اقتصاد وإعلام وأمن، ولديها كذلك جماهيرها المستعدّة للقمع والتّنكيل. بعد انكفاء ثورة تشرين، نجحت السلطة في سحب العصب الجماعي من أيّ تحرّك، وحوّلته إلى فعل فردي، بمعنى أنّ من يريد خوض تجربة الاحتجاج مع معرفته المسبقة بالتفاوت غير القابل للقياس بين قوّته وقوّة ما يواجهه موضوع سلفاً في خانة اليائس وتالياً الانتحاري.

ليست الانتخابات المقبلة في لبنان سوى خطوة على درب التّنكيل المشرعن بالنّاس وبالبلد

ليست الانتخابات المقبلة في لبنان سوى خطوة على درب التّنكيل المشرعن بالنّاس وبالبلد. خطرها الأكبر في هذه المرحلة لا يكمن في اللاجدوى الّتي طالما وسمتها، ولكن في أنّها ستؤمّن، بشكل غير مسبوق، تلاحم وصايتين لا يمكن الفكاك منهما، الوصاية الشّرعية القانونيّة عبر السيطرة على مجلس النواب وآلية إنتاج التّشريع، والوصاية المتأتية من السّلاح.

خوض المعركة في ظل هذه الشّروط مشاركة في شرعنة الأوضاع وتمكينها. القول إنّ فوز ممثلين عن المجتمع المدني المناهض لحزب الله وسلطاته يمكنه أن يُحدث خرقاً يبنى عليه ليس سوى قصر نظر فادح. سقوط ما يمكن أن يقدّم من طروحات بشكل قانوني وشرعي سوف يخرج الأمر من معادلة الاستقواء والغلبة، ويحوّله إلى ممارسة ديمقراطيّة لا يمكن الشّك في نزاهتها وشرعيتها، وبذلك يتم القضاء على كلّ صيغةٍ ممكنةٍ للاعتراض ونزع صفة المعارض عمّن يقدم عليها ووسمه بصفة الخارج على القانون. وهذا تحديداً ما تسعى السلطات إلى تحقيقه في الفترة المقبلة للقضاء على أيّ صيغة احتجاج عبر تأمين سيولة انتقاليّة يمكن بموجبها نقل القمع من صيغته العارية الّتي سبق أن تجلّت في إطفاء العيون بالرّصاص المطاطي إبّان مرحلة ثورة تشرين إلى الزّج في السّجون بأحكام قضائيّة وتحويل المحتجين إلى مجرمين.

إجراء الانتخابات في ظل المعادلات القائمة يعني تحديد موقع للبنان بجعله ساحة حروب

يلاحظ انتشار هذا التّوجه في عدد الدعاوى القضائيّة الكبير الّذي ترفعه منظومات السّلطة ضدّ النّاشطين، وكان لافتاً دخول حزب الله على هذا الخط مباشرةً، مع إبقائه على لغة الشّتم والتّهديد والحملات الإلكترونيّة الممنهجة. واللّجوء إلى القضاء ورفع دعاوى لا يعني سوى أن المرحلة المقبلة ستشهد على إمساكه بزمام القدرة على إنتاج القوانين والتّشريعات، وتحويل خطاب الاعتراض والرّفض إلى خطاب قطاع طرق وخارجين على القانون.

الشّراكة الانتحاريّة مع الحزب في الانتخابات لا تبدو مفهومة. لماذا لا يُترك ينتصر وحده من دون منحه الاعتراف بشرعيّة ما يقدم عليه؟ ولماذا لا تتداعى قوى المجتمع المدني إلى محاولة الّضغط في سبيل رفض إجراء الانتخابات في ظل انعدام الحدّ الأدنى من الشّفافيّة، وفي ظل الهيمنة المطلقة للسّلاح على القرار؟ لا جواب سهلاً على هذا السؤال، ولكنّ المؤكّد أنّ ترك الانتخابات تجري في ظل المعادلات القائمة إنّما يعني تحديد موقع للبلد يجعله ساحة حروب دائمة ومستمرّة. إذا كانت ظروف الاتفاق النّوويّ الوشيك تعني إطلاق يد مليشيات إيران في المنطقة، فإنّ ارتداد الأمر على لبنان من خلال حزب الله لا يعني سوى السّقوط في هاوية الحروب الدّائمة، تلك التي يمكن أن تُفتح مع إسرائيل من أجل إيران، أو تلك المفتوحة ضدّ اللّبنانيّين منذ فترة، والّتي صار اسمها الحركيّ في هذه المرحلة "انتخابات".