الانتخابات الليبية .. الإنكار السياسي

الانتخابات الليبية .. الإنكار السياسي وإساءة التشريعات

11 أكتوبر 2021

العلم الليبي في مظاهرة في طرابلس ضد سحب مجلس النواب الثقة من الحكومة (24/9/2021/الأناضول)

+ الخط -

يشكّل التنازع على قوانين الانتخابات الليبية واحداً من مظاهر الجدل بشأن تسيير المرحلة الانتقالية، ويساهم تناول المناقشات على مدى الأشهر الماضية في الاقتراب من تفاعل المكونات السياسية وطبيعة التنافسية على الوصول إلى السلطة. ويكمن التساؤل في مدى قدرة الانتخابات على إحداث انتقال سياسي والخروج من المرحلة الانتقالية. وهنا، تبدو أهمية تناول توجهات المرشحين المحتملين في بناء الحيز السياسي وكفاية القوانين لضمان الاستقرار وسد الثغرات المزمنة.

سحب الثقة مناورة انتخابية
وفي سياق الخلاف حول موضوع الانتخابات، ابتكر مجلس النواب أزمة بإثارة موضوع سحب الثقة من الحكومة، على الرغم من ضعف جدواها السياسية، حيث لا تمسّ موقع رئيس الوزراء الذي يستمد سلطته من مجلس الأمن، لجنة الحوار السياسي. وفيما ينص التعديل الدستوري الرابع على عزل الحكومة بأغلبية 120 صوتاً، اعتبر المجلس 89 صوتاً كافية لعزلها. وقد بدأ مناقشة سحب الثقة عندما بنى رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، 26 أغسطس/ آب 2021، موقفه على اعتبار أداء الحكومة متواضعاً تجاه توحيد المؤسسات وتقديم الخدمات العامة ومواجهة فيروس كوفيد - 19، بجانب توجيه انتقادات لرئيس الوزراء، عبد الحميد الدبيبة، لسكوته على تصريحات وزير الدفاع التركي، كما اعتبر أن عدم اختيار وزير الدفاع يهدر مشروعية قرارات رئيس الوزراء المتعلقة بالشؤون العسكرية، فيما يُدعم حق خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي في الترشح للانتخابات، ويعتبرها مصلحة للبلاد.
ومع طرح موضوع سحب الثقة للمناقشة البرلمانية، تمثلت الاعتراضات على مشروع الموازنة في أن خطة تخصيص الموارد وتخطيط الإنفاق يُعد سبباً كافياً لرفضها. فمن الناحية الفنية، اعتبر رئيس مجلس النواب أن تأجيل إقرار الميزانية يرجع المقترحة، مائة مليار دينار، كبيرة، وهي تحتاج للخفض حتى 80 مليارا، غير أن ثمّة آراء ترجع إلى الرغبة في تخصيص ميزانية للقيادة العامة، تكون بعيدة عن تصرّف وزارة الدفاع.

بعد تشكيل الحكومة في مارس الماضي، لم يكن هناك مبرّر لفتح ملف سحب الثقة منها، وخصوصاً مع تباطؤ مجلس النواب في إقرار مشروع الموازنة

وعلى مدى شهرين، انتهى مجلس النواب إلى إصدار قرار بسحب الثقة من الحكومة، غير أنه أثار الجدل بشأن صحة التصويت، فمن إجمالي 113 عضواً أعلن 40 منهم في بيان منفصل رفضهم سحب الثقة، ليكون إجمالي الموافقين 73 صوتاً، وهو ما يخالف النتيجة المعلنة، 89 صوتاً. كما أنه من الناحية الشكلية، تنظم المادة الخامسة من الاتفاق السياسي إجراءات سحب الثقة، ويكون نصاب المقترح من خمسين عضوا، ثم يكون بالتشاور مع مجلس الدولة، فيما كان الطلب مقدّما من 45 عضوا، بجانب انفراد مجلس النواب بمتابعة إجراءات سحب الثقة من دون التشاور مع مجلس الدولة.
وبغض النظر عن السياقات القانونية، قد يكون واضحاً أن الخطوة تعبير سياسي، فبعد تشكيل الحكومة في مارس/ آذار الماضي، لم يكن هناك مبرّر لفتح ملف سحب الثقة منها، وخصوصاً مع تباطؤ مجلس النواب في إقرار مشروع الموازنة، وبجانب قصر فترة المحاسبة، فإن عدم استلام الحكومة لتفويض مالي يُضعف الجدارة بمساءلتها على الخدمات العامة. وقد بدت تناقضات مجلس النواب واضحة، فبينما اعترض على مشروع الموازنة، ومنحة الزواج، مليار دينار، يقبل مناقشة مشروع لدعم الأسر بتخصيص 50 ألف دينار. وهنا، يكشف التسابق على الإنفاق العام، مع سحب الثقة عن خصائص بدائية في السياسات العامة وإدارة الصراع السياسي.

‏رفض وجدل قانوني وسياسي
وفي نطاق ما يعتبره اختصاصاً قانونياً، اعتبر المجلس الأعلى للدولة سحب الثقة من الحكومة معيباً ومخالفة للإعلان الدستوري والاتفاق السياسي. ومن جانب آخر، وصف عمداء بعض البلديات خطوة سحب الثقة بـ"العبثية"، وترجع إلى تعارض مصالح عدد من النواب مع سياسة الحكومة. وفي السياق ذاته، رأى رئيس الوزراء أن رفض الموازنة وصراع البرلمان يرتبط برفضه الخضوع لسلطة حفتر، وعدم تخصيصه أموالا لما يعتبرها مليشيا، القيادة العامة التي تنازع المجلس الرئاسي في صلاحياته، وهو ما اعتبره معوّقاً لتوحيد الجيش.

ثمة توافق بين مؤيدي الحكومة على أن شرعيتها تتجاوز مجلس النواب، وتستند على التوافق السياسي والاعتراف الدولي

وتُمثل ردود الفعل الفورية على قرار سحب الثقة حالة من التقارب والتضامن تجاه ما يعتبره فريق من الليبيين نوعاً من التهديد السياسي والأمني. فما إن أعلن مجلس النواب قراره ضد حكومة الوحدة الوطنية في 23 سبتمبر/ أيلول 2021، عَبّرت مجالس بلدية عن رفضها سياسات عقيلة صالح، وقانون الانتخابات الرئاسية، فقد أشار مجلس بلدي مصراتة إلى قدرة الحكومة على حل بعض المشكلات الاجتماعية وتوفير مقومات الحياة الأساسية وتوسيع الاختصاصات المحلية وفق القانون 59/ 2012، ولذلك اعتبر سحب الثقة مخالفا لخريطة المرحلة التمهيدية، وانعكاسا لتطلعات شخصية لمجموعة من أعضاء المجلس، وخطوة لإثارة الفوضى والبقاء في مربع الانقسام السياسي وتدهور الاقتصاد والخدمات .
وثمة توافق بين مؤيدي الحكومة على أن شرعيتها تتجاوز مجلس النواب، وتستند على التوافق السياسي والاعتراف الدولي. وبجانب المجالس البلدية، سارت مكونات في المجتمع المدني في الاتجاه نفسه، حيث اعتبر بيان قبائل إقليم برقة في بلدة سلوق، جنوب بنغازي، في 23 سبتمبر 2021، حكومة الوحدة الوطنية شرعية، وتمسّك بموعد الانتخابات ودعم المصالحة. كما لقيت هذه التوجهات دعماً دولياً من بعثة الاتحاد الأوروبي والبعثة الأممية، ما يمثل انهياراً سريعاً وتقويضاً لقرار مجلس النواب.

استراتيجية متنافسة
على الرغم من التشكك في موعد انعقاد الانتخابات، ظهرت ما يمكن تسميتها استراتيجيات انتخابية، بدت، حالياً، مُوزّعة ما بين ثلاثة مكونات قائمة في السلطة، بالإضافة إلى ظهور طارئ لسيف الإسلام القذافي، ما يمثل خريطة مؤقتة بانتظار مرشحين آخرين للمشاركة في أول تجربة تكون فيها ليبيا دائرة انتخابية واحدة مع بقاء الخلاف بشأن قانون الانتخابات التشريعية.

تشير الملامح الأولية لتحرّكات حفتر وعقيلة صالح إلى وجود استراتيجية هجومية، لوضع منافسيهما في حالة الدفاع ورد الفعل

ويمكن قراءة توجه رئيس المجلس، عقيلة صالح، إلى فتح مناقشة الثقة بالحكومة واحداً من مسارات الترتيب للانتخابات، وإضعاف فرص رئيس الحكومة في الترشّح أو الفوز في الانتخابات الرئاسية، أو خفض محاولة تكوين كتلة نيابية مؤثرة في الوضع السياسي، فقد بدت محاولات صالح للترشح مع إنتاج أغنية تمجّده، وتقدّمه زعيماً سياسياً. وحسب الأداء الموسيقي، فهي جاءت على نمط الأهازيج التي حظي بها معمر القذافي، لكنّ سعيه، في الوقت نفسه، بدا واضحاً إلى التحالف مع خليفة حفتر، عندما زاره في مقر "القيادة العامة" لأجل اتخاذ موقف مُوحد من الحكومة. وفي تزامنٍ مع طرح مسودات قانون الانتخابات، بدأت الحوارات بين حفتر وصالح في 16 يوليو/ تموز الماضي، وقد يكشف هذا التقلب عن صيغة للتساند المتبادل. وتشير الملامح الأولية لتحرّكات حفتر وعقيلة إلى وجود استراتيجية هجومية، لوضع منافسيهما في حالة الدفاع وردّ الفعل.
وتشير التطورات اللاحقة لسحب الثقة إلى جاهزية حفتر وصالح للترشّح للانتخابات، وقد سارت خطواتهما في مسار تدرّجي، بدأ بصياغة قانون الانتخابات وإصداره، ويُعدّ تزامن اتخاذ قرار التفرغ المؤقت من الوظيفة العامة، 23 سبتمبر/ أيلول 2021، ذا دلالة واضحة على مدى الجاهزية لبدء حملة هجومية، فيما لا يزال الآخرون في حالة انتظار، وتحديد موقفهم من المشاركة أو رفضها، ومن ثم يمكن النظر إلى ما يظهر من خلافاتٍ بينهما صورياً ووهمياً.
في أيّ حال، حدث احتواء لمقترحات مجلس النواب بسحب الثقة. وكان لافتاً اتّساع تحرّكات رئيس الحكومة، الدبيبة، وسياساته، وقد حثت على إعادة الوعي بالرموز السياسية وإدخال فئات جديدة العمل السياسي، فاعتبار يوم استشهاد عمر المختار عطلة رسمية، بجانب الاحتكاك بالأنشطة الرياضية، وهي محاولة لتقديم نموذج شعبوي للحكم، يستطيع من خلاله تجاوز القيود التي تحيط به، سواء من البرلمان أو بسبب تفكك الدولة. وفي لقائه مع بلديات المنطقة الشرقية، تصرف بطريقة تقليدية، وبدا عليها العفوية والحميمية، عندما اتجه إلى تلطيف الأزمة المالية وقيود الصرف من البنوك. ونقل جزءا من المهام إلى عمداء البلديات مباشرة، وصرّة فيها نقود، ليتم الصرف منها تحت المراقبين الماليين. ما يشير إلى نمط واسع من اللامركزية يتسم بالتباعد عن التعقيدات السياسية والإدارية. ومن وجهة الاجتماع السياسي، يمثل مشروع الزواج الجماعي نوعاً من بناء الشبكات السياسية.

يمكن اعتبار ظهور سيف الإسلام القذافي، وتضامن دوائره الاجتماعية والقرابية، محفزاً لترويج فكرة ترشّحه لرئاسة الدولة وقدرته على استعادة الكرامة لليبيا

وفي سياق متكامل، يحاول الدبيبة صياغة سياسة لتخصيص الموارد المحلية، فلدى اجتماعه مع وفد من منطقتي الهلال النفطي والواحات، اقترح إنشاء صندوق لدعم وتنمية مناطق الحقول النفطية، يتم تمويله من تخصيص نسبةٍ من العوائد، ما يمثل نوعاً من تطوير اللامركزية ومعالجة سريعة لمشكلات توزيع الثروة .
وبينما طالب عقيلة صالح بتعيين وزير الدفاع، بدأ وزير الدفاع، وهو الدبيبة نفسه، مهامه في التواصل مع نظرائه في الحكومة البريطانية، والاجتماع مع السفير الأميركي لمناقشة التطورات المتعلقة باللجنة العسكرية (5 + 5). وقد دارت المحادثات حول بسط سلطة الحكومة على الجنوب الليبي ومكافحة الإرهاب والتنسيق مع قوات "أفريكوم". لقد صارت السياقات السياسية تتجه إلى انحسار مشروعية البرلمان جهة وحيدة في صناعة السياسة الليبية.
وفي سياق مواز، يمكن اعتبار ظهور سيف الإسلام القذافي، وتضامن دوائره الاجتماعية والقرابية، محفزاً لترويج فكرة ترشّحه لرئاسة الدولة وقدرته على استعادة الكرامة لليبيا، وتعديل السياسة الخارجية على أسس انفتاحية وبعيدة عن خصومات العقد الماضي. ويحاول أنصار النظام السابق العودة إلى السياسة، عبر تشكيل حزب "الجبهة الشعبية لتحرير ليبيا"، ليكون هدفه إخراج البلاد من المرحلة الانتقالية، حسب قناة "الميادين" عن طريق فرض الأمن والمصالحة بمشاركة كل المكونات الليبية، غير أنه، على الرغم من القيود القانونية لإدانته في 2015 بتهمة ارتكاب جرائم حرب خلال الانتفاضة الشعبية ضد نظام القذافي، وخضوعه لملاحقة الجنائية الدولية، من المتوقع أن تمثل التسويات السياسية جزءاً مُعتبراً من الترتيبات الانتخابية، بحيث يتراجع الخلاف حول قانون الانتخابات لمدى يسمح بتوسيع المشاركين في العملية الانتخابية.

إنكار السياسة وعيوب القوانين
ترسم هذه التطورات خريطة انتخابية مُتقاسمة بين مكونات داخلية. وهنا، تبدو أهمية تناول قوانين الانتخابات مؤشّراً على نتائج الجدل السياسي منذ بداية العام الجاري والتنازع حولها. وفيما تعمل النصوص الدستورية والقانونية على تقييد تصرّفات السلطة، يمنح النظام الانتخابي مجلس النواب سلطةً مزدوجة تشريعية وتنفيذية. قد يكون مفهوماً دوره التشريعي، لكن دخوله على تحديد موعد الاقتراع يمنحه ميزة مطلقة في انعقادها أو تأجيلها من دون أجل مسمّى، فحسب المادة 20 من قانون انتخابات مجلس النواب (رقم 2/ 2021)، احتفظ المجلس بسلطة تحديد يوم الاقتراع بعد مرور 30 يوماً على انتخاب رئيس الدولة، ما مثل نوعاً من الاختصاصات المفتوحة الزمن وذات سلطة تقديرية.

يوضح التوجه التشريعي أن ليبيا تعيش حالة فراغ قانوني، متلازمة مع فوضى سياسية

بشكل عام، تعمل قوانين الانتخابات الليبية على تمكين القائمين في السلطة، وتُضعف فرص تجديد النظام السياسي. فقد ظل استصحاب عيوب النظام الانتخابي في تقسيم الدوائر وبقاء تفاوت عدد مقاعدها، وتفيد تجربة انتخابات مجلس النواب 2014 بأن تطبيق قاعدة احتساب المرشّحين الفائزين في دائرة بنغازي 16 مقعداً أهدرت أغلبية الأصوات، وهي ليست استثناءً من دوائر أخرى، ما يعني التفريط في ضمانات تمثيل المؤسسات المنتخب لأكبر هيئة ناخبة ممكنة.
وعلى مستوى آخر، وفيما تم تحديد مدة رئيس الدولة (المادة 74) بأربع سنوات، كان من اللافت تَجنب القانون تحديد الفترة التشريعية لمجلس النواب. ولدى النظر في المرجعية الدستورية، كما وردت في الديباجة، يتضح استناده فقط للإعلان الدستوري المؤقت، 3 أغسطس/ آب 2011، والقوانين والتشريعات التي تعود إلى فترة القذافي وقانون المفوضية الوطنية. وبهذا المعنى، تجاوز صانعو القانون الجدل بشأن التعديلين الدستوريين، السادس والسابع، تعديلات لجنة فبراير 2014، وأيضاً، يتجاهل الاتفاق السياسي في 2015 وخريطة المرحلة التمهيدية في 2021.
ما يوضحه التوجه التشريعي أن ليبيا تعيش حالة فراغ قانوني، متلازمة مع فوضى سياسية. فما تكشفه هذه الممارسات، سوف يحافظ على بقاء مشكلتين، النزاع المزمن حول الآجال الدستورية، والإنكار المتبادل بين المكوّنات السياسية. وبغض النظر عن سيولة المادة 30 من الإعلان الدستوري، تتصف الفترة منذ 2011 بفقر تشريعي، ويمثل عدم القدرة على صياغة قاعدة محل توافق نقصاناً واضحاً في التكامل المؤسّسي، فقد صدرت قوانين الانتخاب من دون تأثير لمجلس الدولة واعتباره غير قائم.
ويمكن القول إن اهتزاز النظام القانوني وبقاء حالة الإنكار يمثلان صدعاً يضعف فرصة الخروج من الحالة الانتقالية. وبتمديد المؤشّرات الحالية، تتزايد احتمالات تفكّك المسار السياسي، وتزايد الاعتماد على الفاعلين الدوليين، ويتوقف مستقبل الاستقرار في ليبيا على قدرة الرئيس المنتخب على ترميم النظام الدستوري، والوصول إلى حالة التوافق السياسي.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .