إيطاليا .. مأسسةُ الاستبداد الصحي

إيطاليا .. مأسسةُ الاستبداد الصحي

24 فبراير 2022

احتجاج في ساحة فينيسا في روما ضد التطعيم الإجباري ضد كورونا (14/2/2022/Getty)

+ الخط -

خطت الحكومة الإيطالية خطوة كبرى نحو تشديد التدابير الاحترازية للحدّ من تفشّي فيروس كورونا، بتضييقها الخناق على غير الملقحين، الذين باتوا ممنوعين من الالتحاق بمقرّات عملهم، وارتياد المقاهي والمطاعم والفنادق والمسارح ودور السينما والنوادي الرياضية، واستخدام وسائل النقل العمومية. ومنذ 15 فبراير/ شباط الجاري، بات تلقّي التلقيح، بجرعاته الثلاث، إجباريا للذين تتجاوز أعمارهم 50 سنة. وأثار توقيف موظفين عن العمل، ممن لا يتوفرون على ''الجواز الأخضر'' الذي يُثبت تلقيهم التلقيح، احتجاجات واسعة، لا سيما داخل التعليم العالي، حيث وجد أساتذة جامعات، غير ملقحين، أنفسهم موقوفين عن العمل حتى إشعار آخر، فضلاً عن فرض تدابير مهنيةٍ أخرى تحدّ من حرّيتهم على أكثر من صعيد. وهو ما اعتُبر ليس فقط مسّاً بحرمة الجامعات ودورها الثقافي والاجتماعي، بل أيضاً تضييقاً على الحريات الفردية التي ظلت هذه الجامعاتُ، دائماً، معقلاً تاريخياً للدفاع عنها وصيانتها. وهو ما دفع الأساتذة إلى الانخراط في أشكالٍ احتجاجيةٍ مختلفة، كان جديدها أخيراً توجيه رسائل مفتوحة إلى المؤسسات السياسية والثقافية والأكاديمية في البلاد، يطالبون فيها بإيقاف العمل بقانون الطوارئ الصحية ورفع الوصاية الصحية عن الجامعات، في خطوة لإحراج الحكومة أمام الرأي العام. وبقدر ما يبدو النقاش العمومي في إيطاليا منشغلاً بإيجاد تسويةٍ لهذا المأزق الحقوقي، يرى هؤلاء الأساتذة أنّ فرض ''الجواز الأخضر'' لا يتعارض فقط مع الحريات العامة وحقوق الإنسان التي تمثل ركناً رئيساً في النظام السياسي الإيطالي، بل ينذر، أيضاً، بالإجهاز على الإرث الأكاديمي والمعرفي العريق الذي طالما عُرفت به هذه الجامعات قروناً.

ويتمتع معارضو إلزامية التلقيح في إيطاليا بدعم مفكرين وفلاسفة وأكاديميين معروفين، وفي مقدمتهم الفيلسوف جورجيو أغامبين Giorgio Agamben ، الذي عارض بشدة الحجر الصحي الذي فرضته الحكومة قبل سنتين، ووصفه بـ ''الاستبداد التكنولوجي والطبي'' كما عارض الكمامات. وشبّه محنة غير الملقحين بمحنة اليهود مع الفاشية. وعلى ما في مواقفه من راديكالية بادية، إلّا أنّها تلقى انتشاراً داخل إيطاليا وخارجها، خصوصاً بعد ظهور متحوّرات جديدة للفيروس وغيابِ أفق لنهاية الجائحة.

يرى طيف عريض من الإيطاليين، غير الملقحين، أنّ فرض ''الجواز الأخضر'' يجعل الحجْر الصحي قاعدة دائمة في إدارة الجائحة. وإذا كان قرار حكومة ماريو دْراغي (غير منتخبة بالمناسبة!) يعود، في جانب منه، إلى مخاوف من تفشٍ واسع للفيروس يذكِّر بالأزمة الصحية التي شهدتها البلاد في 2020، فإنّه، في الوقت ذاته، يعكس حلقة أخرى في تغوُّلِ هذه الحكومة ونزوعها نحو إدارة الجائحة بمنظومة سلطوية قوية، تسندها معظم مكونات الطبقة السياسية ووسائل الإعلام.

وعلى الرغم من أنّ دراغي (كان رئيساً للبنك المركزي الأوروبي) علّل فرض ''الجواز الأخضر'' بالأزمة الاقتصادية، غير أنّ ذلك لا يبدو أنه يقنع جبهة رافضي إلزامية التلقيح، الذين يتهمونه بمحاباة قطاع الأعمال والرأسمال العابر للحدود، على حساب الطبقة الوسطى المعنية، بحكم تركيبتها السوسيومهنية، بتبعات فرض ''الجواز الأخضر''، ما يعني، من وجهة نظرهم، مأسسة للاستبداد الصحي على درب إحكام الليبرالية الجديدة قبضتها على مختلف مناحي الحياة، في توظيفٍ محكم للجائحة، بشكل يجعل الأمر كأنه حرب نفسية تستهدف تطويع المجتمع وتقليص هامش الحريات تحت غطاء القانون.

في السياق ذاته، تتنامى المخاوف من تخلّي اليسار، بمختلف أطيافه، عن مساندة المتضرّرين من قرار الحكومة. ومن المفارقة أنّه في وقت تبدو بعض أحزاب اليسار أكثر تشدّداً مع غير الملقحين، خصوصاً في مقاطعة توسكانا التي تُعدُّ معقلاً تاريخياً لليسار الإيطالي، تُعارض بعض أحزاب اليمين فرض ''الجواز الأخضر''، وفي مقدمتها حزبا ''إخْوة إيطاليا'' اليميني المحافظ، والرابطةِ (ليغا) اليميني المتطرف.

يرى كثيرون في إيطاليا أنّ الحكومة تقدّم، من خلال فرض هذا الجواز، وصفة سياسية ناجعة للأنظمة الاستبدادية في الجنوب، التي تعتبر الجائحة فرصة تاريخية، قد لا تتكرّر، لفرض هيمنتها على مجتمعاتها عقوداً أخرى.