إلى المنصف المرزوقي وآخرين

إلى المنصف المرزوقي وآخرين

16 يونيو 2022
+ الخط -

لستُ من هواة تضخيم دور الفرد، أو القول إن الإرادة أقوى من الظروف الموضوعية، وهو ما قرأناه كثيراً على جدران المدارس والمباني العامة في سورية، بل كل عمل جماعي، بالنسبة لكاتب هذا النص، أهم من دور الفرد، ولكن للأفراد أدواراً ومسؤوليات كبرى في الأعمال الجماعية، فكيف إن كنّا نتحدّث عن شخصية كالمنصف المرزوقي؛ الرجل كان قبل أن يصبح رئيساً في بلده تونس ناشطاً حقوقياً؛ له صولته وجولته، في عالمنا العربي وعالمياً، ويتلاقى ذلك مع مشكلاتٍ عميقةٍ في تونس تتطلب تحالفاً سياسياً واسعاً، وقادة مجرّبين وخبراء؛ إذاً هناك مسؤولية ويجب تبوؤها.

تونس في مأزق شديدٍ؛ فهناك قيس سعيّد، وطموحه أن يكون عبد الفتاح السيسي في تونس، ويا له من طموح. يكمن مأزق البلاد في محاولة بناء الديكتاتورية، وفي أزمة اقتصادية واجتماعية كبيرة. هناك محاولات جادّة لبناء تحالف معارض واسع، ولكن هناك مشكلات تعترضه، وخلافات بين قوى إسلامية ويسارية وليبرالية، وهي تتأسّس على أخطاء كبرى وقعت بها تلك القوى، سيما حركة النهضة، ومحاولته السيطرة على الدولة في تونس. مسعى "النهضة" مشروع، ولكنه يخفي مصالح وطموحاً كبيراً لدى قادتها، وربما الانتقام من تاريخ تونس "العلماني"، ومنذ الاستقلال، ومع ذلك تظل "النهضة" حزباً سياسياً، وحكاية أن لديها "جناحاً مسلحاً" من دون توثيقٍ أو قرائن.

الوضع المتأزم يتطلّب شخصيات قوية، المنصف المرزوقي إحداها، وهناك آخرون في الأحزاب كافة، وحتى في الاتحاد التونسي للشغل. يُلاحِق المنصف حكم قضائي، وإن وطأت قدماه بلاده سيُقاد إلى السجن. هذا ليس أمراً عادياً، ولكن ألا تستحق تونس، وقد قام الشعب بثورة ضد الإفقار والديكتاتورية، تلك التضحية. ألا يعلم المنصف وآخرون بوزنه، وهم موجودون في الخارج، أن السجون التونسية تعدُّ إقاماتٍ جبريّة إزاء السورية أو المصرية وسواها.

لا ينطلق الكاتب من ازدراء بشاعة السجون، ويأخذ بالاعتبار العمر المتقدّم للمرزوقي، وللرجل الحق المطلق بعدم العودة، ولكن لا يمكن للمرء أن يتجاهل أن الأغلبية في تونس يعانون. نسخة قيس سعيّد من العلمنة تشوّهها، وتشطب آثار الثورة الشعبية، وتدفع تونس نحو صدامٍ بين القوى العلمانية والإسلامية، وبذلك ينزاح الصراع عن كونه صراعاً سياسياً. ومن أجل النهوض بتونس، وفي المجالات كافة، إلى صراعٍ "ثقافي"، سيُلحِق تونس إلى قائمة الدول الفاشلة، كسورية واليمن وليبيا؛ وللدقة هو صراع سياسي، ويحاول الرئيس خوضه على قاعدة الهويات القاتلة.

خيار سعيد هو تفجير المشكلات "طائفياً"، واستعطاف الغرب ومغازلته بسبب الإسلاموفوبيا وادّعاء العلمانية، وتجديد الدعم له

كما فعلت حركة النهضة، في إطار محاولاتها السيطرة على الدولة، عبر محاولتها فرض حكومات "نهضوية"، والتقدّم حثيثاً في مؤسسات كثيرة للدولة، يفعل قيس سعيّد. في الأشهر الأخيرة، راح يخسر من شعبيته كثيراً، والسبب عدم قدرته على حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وليس فقط بسبب إصلاحاته السياسية "الجنرالية الفردية"؛ إنه يستدين من البنوك الدولية من أجل إعطاء الموظفين أجورهم الزهيدة. ويعود تراجع شعبيته، بشكلٍ كبير، إلى تهميش مصالح الأكثرية، وكذلك عدم تقدّم شعبية حركة النهضة؛ ففي ظلّ سيطرتها، ما قبل الانقلاب السعيدي، لم تستطع حل المشكلات، وبالتالي، هناك مشكلات كبرى تواجه تونس. والآن، تتصاعد بعد تشكل جبهة الخلاص الوطني، وإضراب القضاة الراهن، والإضراب المزمع إقامته من الاتحاد التونسي للشغل اليوم، 16 يونيو/ حزيران الجاري، وقد رفض الاتحاد الحوار الذي دعا إليه قيس سعيّد، وندّد بطرد عدد كبير من القضاة والتشهير ببعضهم. وتقول العقلانية إن الأمور تزداد حدّة بين الاصطفافين، وقد تخرج عن الصراعات السلمية، وهذا ما يستدعي تدخل العقلاء، وإعادة الصراع نحو السلمية، خياراً نهائيّاً، والتصدّي لمشكلات تونس؛ مواجهة الديكتاتورية والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية خاصة.

لن يتخلى سعيّد عن أوهامه بأن يكون ديكتاتوراً، والآن وصل إلى اللعب بموضوع دين الدولة، وحذفه من الدستور، وهي قضية حسّاسة، لم يتجاوزها مؤسّس الجمهورية، الرئيس بورقيبة، وظلّت كما هي في إطار دستور 2014 "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها". الآن "خيال المآته" يريد دستوراً علمانياً كاملاً، ويعلن الموكلون بدستوره هذا أن المرجعية الإسلامية لن تكون في الدستور. ومسألة الدستور هذه ليست هي الأصل في سياسات قيس سعيّد. الأصل هي أزمته العميقة، إذ، ومن خلال القضية السابقة، يريد شقّ صفوف المعارضة، وجذب اليساريين والبورقيبيين، وربما الاتحاد العام للشغل إلى صفّه؛ لم يكن لعلاقة الدين بالدستور، ومنذ تشكيل الدولة التونسية، دور في تديين الأخيرة، بل ولم تعق التقدّم الكبير في حقوق المرأة أيضاً.

شخصياتٍ كالمنصف المرزوقي، وسواه، ستلعب دوراً في تخفيف الاحتقان في تونس

يتقصّد سعيّد اللعب بهذه القضية لسببٍ آخر، وهو استقطاب مؤسّسات الجيش والأمن إلى جانبه، وبذلك، لم يتعلم شيئاً من سورية خصوصاً، وضرورة أن تبقى هذه المؤسسات حيادية تجاه السياسة. مأزق تونس يتطلب تحالفاً سياسياً كبيراً، وألا تظل المعارضة مقسّمة إلى أربع مجموعات كبرى لمواجهة الديكتاتورية، فخيار سعيد هو تفجير المشكلات "طائفياً"، واستعطاف الغرب ومغازلته بسبب الإسلاموفوبيا وادّعاء العلمانية، وتجديد الدعم له. هناك أصواتٌ راجحةٌ من شيوخ وعقلاء بدأت تعي فخ سعيّد هذا، ولكن قوة الأزمة مطروحةٌ أمام الجميع، وستعمل من أجل تصعيدها القوى الأكثر رغبة في إطاحة قيس سعيّد ومؤسساته وكل مراكز قوته في الدولة، وهو يستثيرها بكل الأساليب. هنا تبدو تونس في خطرٍ كبير. البديل هو العودة إلى خيار الدولة الوطنية المواطنية، ورفض كل أشكال الإقصاء السياسي، وتجسير الهوة بين القوى السياسية المختلفة.

إن شخصياتٍ كالمنصف المرزوقي، وسواه، ستلعب دوراً في تخفيف الاحتقان، ومنعه من التفجر "الهووي". إن علمانية قيس سعيّد هنا سياسية محضة وكاذبة ومخادعة، ولا علاقة لها بالعلمانية الجادّة والهادئة، والتي أسّس لها بورقيبة. القوى العقلانية ومن كل التيارات السياسية والثقافية معنية بالوحدة وبالمواجهة الكاملة مع ديكتاتورية قيس سعيّد، وعلمانيته الكاذبة.

تونس في هذه اللحظة تتطلب شخصيات وازنة، وليست طرفاً أصيلاً في نزاعات قديمة لم تتجاوزها بعد؛ بين الإسلاميين والعلمانيين. إن عودة المنصف إلى السجن فوراً ستدفع نحو ذلك الشكل من المواجهة، وربما سيضطرّ الحالم بأن يصبح ديكتاتوراً أن يعيد حساباته قبل أن يقتلعه الشعب بثورة شعبية جديدة. الثورة قادمة لا محالة، وهي لا تهدّد فقط سعيّد، بل والمعارضة التي نتحدّث عنها. ولهذا يجب ملاقاتها بسياسات وطنية، تنهض بتونس، بدلاً من أن تفترسها الصراعات الأهلية أو تصبح مديونةً للبنوك الدولية، كمصر مثلاً. تونس لا تنتظر كثيراً، أيها المنصف، فهل تنصف بلدك، وهو يكاد "يحتضر".