أميركا تصارع لاستعادة بحرها المتوسط

أميركا تصارع لاستعادة بحرها المتوسط

15 مارس 2022

شيرمان ووزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في مؤتمر صحافي في الرباط (8/3/2022/الأناضول)

+ الخط -

لم تستغرق زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركي، ويندي شيرمان، إلى خمس دول في الحوض المتوسطي أكثر من أسبوع، لكن المتابعة، المتراوحة بين المأساوي والتاريخي، أحالت خيال كثيرين على إلياذة هوميروس وما سبقها، باعتبار أن هذه الملحمة لم تدم سوى أيام قليلة طبعت الحسّ التراجيدي والعسكري والعاطفي البشري، لما كانت قد حازته من رمزياتٍ قاسية وطويلة. وقد يكون وجه الشبه مقتصرا على الحصار الذي يشكل عصب الحرب، حصار ضرب في السابق على طروادة، وحاليا على موسكو، مع فرق جوهري، أن الحرب تجري في مكان آخر من أماكن أوروبا. هل هو تأثير اختلاط الملحمة بالجيوـ ستراتيجية؟ ربما، لكن الشبه الحالي هو وجود البحر الأبيض المتوسط، بحر التراجيديا في قلب المنافسة بين دول الحربين، السابقة والحالية، بين أغاممنون الروسي والمحارب الغربي أخيليس.
ويحصل أن المتتبع بيان رحلة ويندي شيرمان على خريطة الحوض المتوسط قد لا يجد في محطاتها ما يجعل لها خيطا ناظما، فهي تنقلت بين خمسِ عواصم تبدو، في الوضع العام، بدون مشترك يجمعها، إذ لا علاقة بين مدريد والرباط في الموقع من الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، ولا بين الرباط والجزائر من حيث القرب أو البعد من موسكو، ولا بين القاهرة وأنقرة حيث الخلافات بشأن تدبير المنطقة وسياستها، على الرغم من التقارب أخيرا، ما زالت حادّة. كما أن الدول مجتمعة لا توجد على توقيت واحد في هذه الساعة الجيوسياسية المشتركة، بدليل ظاهر أجندة الزيارة التي أعلنت عنها الخارجية الأميركية نفسها، فقد ورد فيها أن ويندي شيرمان توجهت إلى تركيا وإسبانيا والمغرب والجزائر ومصر، وناقشت في أنقرة ومدريد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وفي المغرب، بحثت القضايا السياسية الإقليمية والحوار الاستراتيجي، وهو الموضوع نفسه مع الجزائر، في حين التقت بوزير الخارجية وكبار المسؤولين في مصر، بدون تحديد مواضيع الاجتماع. والحال، أن ما يمكنه الكشف عن حدِّ أدنى نظريا وعمليا، عسكريا وجيوسياسيا، أن الدول كلها دول المتوسط، ولها تموقعاتها من القضايا المطروحة.
هي زيارة يتحكّم فيها الموقع، كما تتحكم فيها أهداف الإدارة الأميركية من الحرب الدائرة في أوكرانيا، فبعد جفاء استراتيجي استمر غير قليل من الوقت، إذا صح التعبير، بدأ دركي العالم يستشعر الحاجة إلى استعادة "أوديسته" المتوسطية، ففي زمن سابق من الصراع والتجارة، كان الأبيض المتوسط يسمّى "البحر الأميركي"، نظرا إلى الأهمية الاستراتيجية للحوض الملحمي ومساهمته في التطور السريع لتاريخ الولايات المتحدة، فكان الحوض الأبيض المتوسط دوما مركز انشغال جيوسياسي لأميركا، وكانت الحروب هي التي تدلّها باستمرار على هذه الأولوية، ويأتي السلام من بعد.

اقتنعت واشنطن بأن التنافس الاقتصادي والعسكري مع الصين هو المحور المناسب لسياستها الخارجية في الدورة الجديدة لتاريخ العالم

وبفعل التغيرات، انتقلت نقطة التمركز من الغرب المتوسطي إلى قلب الشرق الأوسط والشرق الأدنى بفعل البترول ومحاربة الإرهاب، وحدث أن غيَّر مناخ الحرب الباردة، ثم عقدان من محاربة الإرهاب في بؤرهِ العربية الإسلامية أساسا، اتجاه أميركا نحو المحيط الهادئ، فقد اقتنعت واشنطن بأن التنافس الاقتصادي والعسكري مع الصين هو المحور المناسب لسياستها الخارجية في الدورة الجديدة لتاريخ العالم. وعليه، اتجهت شرقا أكثر، بدون أن تسقط الحوض المتوسط نهائيا من خريطة وجودها العسكري، بِدليل أن الأسطول السادس ما زال ينشط في مياه المتوسط. وقد لخصت واشنطن وجودها في المنطقة في جعل الرهان الرئيسي هو حماية إسرائيل، والحفاظ على التوافق العسير مع كل الشركاء. وهو ما لم يسر كما اشتهت، وكانت نتيجته التخلي عن حلفاء كثيرين في شرق المتوسط. وفجأة تبين أن الخطأ كان فادحا في استصغار موسكو، والتهليل لفقدان أهليتها السياسية والجيو ستراتيجية في المنطقة.
لقد اعتبرت واشنطن،  بحسب جان دومينيك جولياني، رئيس مؤسسة روبير شومان، أن "روسيا لا تعدو أن تكون فزّاعة لا غير، ولا تملك القوة لاحتلال أوروبا، كما في العهد السوفياتي، وكانت مفاجأة القرم ثم أوكرانيا. وتنوعت عناوين هذا الاستصغار، سواء من حيث اعتبارها "مجرد قوة إقليمية لا أكثر"، كما صرح باراك أوباما بذلك، أو بالإحالة على ما قالته  كوندوليزا رايس، في سنة 2003، "يجب تجاهل ألمانيا والصفح عن روسيا ومعاقبة فرنسا"، إبّان حرب العراق.  
تغيرت المعطيات، وتغيرت فلسفة واشنطن التي أعلنت، بصريح الحرب "لا بد من أن تُمنَى روسيا بهزيمة استراتيجية لا تقوم من بعدها"، حسب نائبة وزير الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند. والواضح أن قاعدة التحرّك ذات صلة وثيقة بغرب المتوسط، حتى بالنسبة لمصر وتركيا، إذ إنهما معنيتان بمصير ليبيا وتأمين انتقالها السياسي، كما أنهما معنيتان بموقع روسيا في سورية حافظ الأسد، الحليف المركزي لروسيا.
ويتضح الآن أنه في وقت تخلت واشنطن بشكل كبير عن المنطقة، أعلنت روسيا سياسةً مفكّرا فيها بعمق، تسعى إلى تحويل المتوسط إلى "منطقة عسكرية سياسية للاستقرار وحسن الجوار".  ولا شك أن الرئيس بوتين ما زال يحتفظ في ذهنه وأدبيات الحرب في مدارس روسيا العسكرية بحالة جوزيف ستالين في 1940، حين كان منشغلا كثيرا بالهيمنة البريطانية في المتوسط، إبان الحرب العالمية الثانية التي يواجه فيها الغرب النازي بيريا.

تعي واشنطن، الآن، ضرورة إعادة تنشيط الاهتمام بالرهان الأوروبي والمتوسطي، عبر أدوار "الناتو" في غرب المتوسط، لمواجهة روسيا

لروسيا موقعا قدم استراتيجيان، هما سورية وليبيا (شرق المتوسط ووسطه). وقد سبق للباحث والمحلل، مايكل بيترسون، أن كتب أن حيازة جزيرة القرم وقاعدتها منذ 2014 تعد "حجر الزاوية للعمليات الروسية في شرق المتوسط ووسطه"، وهو ما ثَبّتَهُ مرسوم رئاسي صادر عن فلاديمير بوتين سنة 2017 عن "السياسة البحرية الروسية عبر الحضور الدائم في المتوسط". ومتتبع حرب أوكرانيا يجد أن تكتيكات كثيرة متبعة فيها مستمدة من تجربة روسيا في سورية، حيث اكتسب جيشها خبرة عملية، واختبرت معظم مكونات ترسانة الكرملين العسكرية.
وترى موسكو أن جزءا من عودتها إلى الشرق الأوسط يمر عبر بوابة البحر الأسود، وتوطيدها عبر عقد تحالفات جديدة في المنطقة والمشاركة العسكرية عن طرق الجيش والمسلحين شبه عسكريين التابعين لموسكو. وعليه، فإن الوجود الروسي، كما تفهمه واشنطن اليوم، يمكنه أن يكون قوة ردع في مواجهة القوات التقليدية لحلف الناتو، وتأمين المصالح الروسية.
في اللعبة الكبرى لبداية نهاية الهيمنة الغربية على حوض المتوسط، هناك اليوم المثلث الاستراتيجي الذي يضم الصين وروسيا وأميركا، مع التشديد على أن الصين وروسيا هما المنافسان الكبيران لواشنطن، بعدما ثبت "التعب الأوروبي" في مجاراة السرعة التي يعدو بها تاريخ التوازنات في المنطقة، بحسب المؤسّسة المتوسطية للدراسات الاستراتيجية (fmes). يتبين ذلك من تضاعف الوجود العسكري الشامل، بفعل التحالف الروسي والسوري، مقابل "نزوع انعزالي" طوال عقدين لأميركا.
وربما تعي واشنطن، الآن، ضرورة إعادة تنشيط الاهتمام بالرهان الأوروبي والمتوسطي، عبر أدوار "الناتو" في غرب المتوسط، لمواجهة روسيا. وأدوار تركيا هنا محورية، في تلجيم سورية من جهة، كما في التأثير على الوضع الليبي من جهة ثانية. كما كان الحوار دليلا على عودة تركيا إلى اللعبة الدولية بعد عزلة بضع سنوات، وقد استغلت موقعها باعتبارها حليفة لأوكرانيا ومستثمرة علاقاتها مع روسيا التي "يعتمد عليها القطاع السياحي وإمدادات القمح والطاقة بشكل وثيق". وبالنسبة لمصر، سارع عبد الفتاح السيسي إلى زيارة السعودية، في ظل "تخوف من حدوث ارتدادات سلبية للحرب الروسية الأوكرانية على أمن المنطقة العربية والشرق الأوسط"، كما أوضح الطرفان للصحافة.

ربما توحي كل هذه الحروب، القصيرة والواسعة، حول المتوسط، أننا نعيش آخر حروب البترول الذي يمر عبره، ويصنع تناقضاته

في المقابل، يمكن أن يشكل الحضور الروسي، في ليبيا وفي الساحل جنوب الصحراء، بالنسبة للآخرين في أوروبا، الحلف الأطلسي وأميركا الآن عنصرَ زعزعةٍ إضافيا في منطقة تعيش على صفيح ساخن. بين التقلبات والانقلابات وعدم الاستقرار والمواجهات العسكرية المفتوحة. زد على ذلك أنه لم يعد أحد ينكر أن الحرب الهجينة أو المختلطة صارت "أسلوبا في الحرب"، ويمكنها أن تشتغل في أي نزاع ممكن. ولهذا لا يمكن لأي استراتيجي أنْ يُلغي من العقل العملي إمكانية تطاير شرر النيران في البلقان إلى محيط قريب منه، وهو حوض المتوسط. وهنا يكون دور المغرب، بالنسبة للحليف الأميركي، مركزيا في تأمين الحدود الجنوبية للمتوسط، ثم استثمار خبرته الدولية في محاربة الإرهاب، وتوطيد الأمن الإقليمي والشمال-أفريقي. وهو يرأس، إلى جانب الولايات المتحدة، هيئات دولية أساسية في محاربة الإرهاب، كما اكتسبت أجهزته مهارة لافتة في المجال عبر التعاون مع كلِّ المحيط المتوسطي والعواصم المعنية بسلامته. وباعتبار وضعه الخاص والمتوازن في العلاقة مع روسيا والغرب، اتضح من خلال موقفه من الصراع، بعدم مجاراة الغرب في معاداة صريحة مع موسكو مع التشبث المبدئي بالوحدة الترابية للدولة، أنه عنصر استقرار في المنطقة، وأيضا عنصر توازن، مقابل حلفاء أكثر انخراطا مع روسيا في التسابق العسكري.
ومن الوارد في الأجندة الأميركية القيام بمساعٍ من أجل تهدئة الغرب المتوسطي، بين الجزائر والمغرب وإسبانيا، واستباق اشتعاله، إذا ما تفاقمت الوضعية، وتحول إلى امتداد لماذا يجري في محيط البحر الأسود. ومن المرجّح كثيرا ألا تترك الديبلوماسية الروسية هذه الزيارة تمر بدون رد مناسب، عبر زيارة مماثلة لمسؤول كبير في الخارجية الروسية إلى المنطقة.
ويوحي هذا "الباليه" الديبلوماسي المرافق للحرب بأن عصرا ينتهي وعصرا آخر يرتسم في غضون القرن الواحد والعشرين، عصر نهاية الهيمنة الغربية على المتوسط، وعودة قوتين من العصور السابقة، القوة القيصرية والقوة السلطانية ومركزية القوتين، الإقليميتين، المغربية والمصرية، في الحفاظ على أدوارها بلعب ورقة التوازن.
وربما توحي كل هذه الحروب، القصيرة والواسعة، حول المتوسط، أننا نعيش آخر حروب البترول الذي يمر عبره، ويصنع تناقضاته.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.