أعداء يناير: أعداء غزّة

أعداء يناير: أعداء غزّة

24 يناير 2024
+ الخط -

يطحن شعبنا الفلسطيني علف الحيوانات للحصول على الخبز، فيما نصفُ أشقّائه منشغلون بأمم أفريقيا والنصف الآخر بأمم آسيا، والعدو يصوّب نيران مدفعيته على المستشفى الوحيد الباقي ومخيّمات الإيواء في خان يونس.

هذه لحظة مفصلية في التاريخ، يعلن فيها العرب بوضوح أن تمسّكهم بالعلاقة مع العدو مقدّمٌ على علاقتهم بالشقيق، إذ تتآكل كلّ معاني حقّ الأخوّة وحقوق الجوار، بينما شعبٌ يُذبح من الوريد إلى الوريد وحكومات العرب لا تحرّك ساكناً، بل أنها لا تحاول، حتى من باب رفع العتب وتحسين الصورة.

أقصى ما يقدّمه العرب الآن جهود وساطة وعروض سخية على الاحتلال، لكي يتوقّف عن عدوانه بعض الوقت، بعد أن أهدروا جميعاً الفرصة التي صنعتها لهم جنوب أفريقيا لكي يتداركوا خطيئاتهم بحقّ الشقيق، على الرغم من التظاهر بأنهم داعمون ومشاركون في نضال أحفاد نيلسون مانديلا ضد الجريمة الصهيونية.

حين تحدث المحامي الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية مدّعياً أن مصر هي التي تمتلك مفاتيح إدخال المساعدات إلى غزّة أو منعها، هاج الإعلام المصري وماج معلناً أن القاهرة ردّت على هذا الكذب بمذكرة رسمية أرسلتها إلى هيئة المحكمة، فهل حقّاً أرسلت مصر شيئًا؟

بحسب المنشور على لسان مصادر مصرية في "العربي الجديد" أمس "الحكومة المصرية لم تتقدّم حتى الآن بأية مذكّرات قانونية إلى محكمة العدل الدولية للردّ على مزاعم دفاع الاحتلال الإسرائيلي أمام المحكمة، والحجّة أن التقديرات المصرية الرسمية ترى أن التحرّك دولياً أمام محكمة العدل الدولية، بأي شكل من الأشكال، ليس مفيداً بالنسبة لمصر".

إن كانت مصر قد قدّمت مذكّرات قانونية للمحكمة، فما الذي يمنعها من نشر نصوص هذه المذكّرات على العالم، أسوة بجنوب أفريقيا التي نشرت وثائق ومذكّرات الدعوى التي رفعتها أمام العدل الدولية لمحاكمة الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية؟

يقول المثل الشعبي المصري "اللي بيزمر ما بيخبّيش دقنه". وبالتالي، غير مفهوم على الإطلاق أن القاهرة لم تنشُر مذكّرة دفاعها عن نفسها، بل أنها لم ترسلها إلى المحكمة أصلاً، إن كانت قد أعدت مذكّرة فعلاً، وهو ما يستحقّ من رئيس هيئة الاستعلامات، ضياء رشوان، الذي أعلن للعالم أن هناك مذكرة قانونية مصرية ضد الادّعاءات الإسرائيلية، أن يقدّم للناس تفسيراً، مثلما هو شديد السخاء في تقديم التفسيرات للكيان الصهيوني، كما جرى قبل يومين مع البيان المُشين الذي يعلن فيه بكل فخر الجهود المصرية لإحكام الحصار على المقاومة الفلسطينية في غزّة، عن طريق، (وأنقل هنا من البيان بكل أخطائه الإملائية والنحوية) "عمل منطقة عازلة بطول 5 كيلو متر من مدينة رفح المصرية وحتى الحدود مع غزة، وتم تدمير أكثر من 1500 نفق، كما قامت مصر بتقوية الجدار الحدودي مع القطاع الممتد لـ 14 كيلو متر، عبر تعزيزه بجدار خرساني طوله 6 متر فوق الأرض و6 متر تحت الأرض، فأصبح هناك ثلاثة حواجز بين سيناء ورفح الفلسطينية، يستحيل معها أي عملية تهريب لا فوق الأرض ولا تحت الأرض. فمصر لديها السيادة الكاملة على أرضها، وتحكّم السيطرة بشكل تام على كامل حدودها الشمالية الشرقية، سواء مع قطاع غزّة أو مع إسرائيل". 

البيان كله دفاع مستميتٌ من النظام المصري لتبرئة ساحته أمام صديقه الصهيوني، فيما خصّ الاتهامات الموجهة للقاهرة بعدم إحكام السيطرة على المنافذ المؤدّية إلى قطاع غزّة، من دون كلمة واحدة تذكّر هذا الشعب الذي يتعرّض لعدوان همجي منذ مائة يوم وعشرة، بوصفه شعبًا شقيقًا ينبغي الدفاع عنه، والانتصار لقضيته العادلة، ومن دون اعتبارٍ لمشاعر غضبٍ مشتعلة تغلي في صدور الشعب المصري، وهو يتسمر أمام الشاشات يتابع وقائع إبادة شعب شقيق.

في بدايات العدوان على غزّة، قال مجرم الحرب بنيامين نتنياهو إنه واثقٌ أنّ أصدقاءه العرب يشاركون إسرائيل الأهداف ذاتها في حربه على غزّة، وها هي الأيام تُثبت أن ذلك أصدق ما قاله هذا الكذوب، فمن ناحيةٍ لا فعل رسمياً عربياً لإيقاف الجريمة، ومن ناحية أخرى، ليس ثمّة تسامح مع غضب شعبي يريد أن يعبر عن ذاته في الشارع العربي، والمصري بشكل خاص، خصوصًا في هذه الأيام التي تصيبهم فيها لوثة ذكرى ثورة 25 يناير، حيث ينتابهم الفزع من أي هتاف أو دبيب أقدام على أرض الشارع.

هنا تتقاطع مصالح أعداء غزّة وأعداء ثورة يناير وتصبّان في مسار واحد، حذف الشعب من معادلة الصراع، بالرؤية التي أعلنها بنيامين نتنياهو قبل سبع سنوات  حين قال في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 في كلمة أمام الكنيست بمناسبة 40 عاماً على زيارة الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، إسرائيل وإلقائه خطاباً أمام الكنيست، إن "الشعوب العربية والرأي العام العربي تعرّضت على مدار سنين طويلة لعملية غسيل دماغ وتشويه لصورة إسرائيل إلى درجة بات وكأن هناك حاجة لإزالة طبقات جيولوجية من الوعي العربي لتحسين صورة إسرائيل، وللوصول إلى سلام بين الشعوب". كما اعتبر في تغريدة له على موقع تويتر في ذلك الوقت أن"أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز".

شعبٌ يُباد وشعوبٌ تسحق، لكي ينعم احتلال واستبداد بدفء العلاقة... تلك هي المأساة.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا