أطفال المقاطعة

أطفال المقاطعة

15 يناير 2024

(عبد الرحمن السليمان)

+ الخط -

"أنر الزاوية التي أنت فيها"... طاغور
على خشبة مسرح مهجور، طفلة في المرحلة الابتدائية الثالثة تستعرض من ذاكرتها أسماء سلع الشركات الداعمة لإسرائيل ويجب مقاطعتها، أو بالأحرى تلك الشركات الداعمة لقتل الفلسطينيين التي لا يجب أن تدخل منتجاتُها الغذائية بطونهم، وكأن الأطفال هنا في مرحلة فطام ثانية في حياتهم. تدور الطفلة دورة كاملة، بعد إعلان اسم  كل شركة، راسمة في الفضاء دائرة، قبل أن تذكر اسم سلعة جديدة من قائمة محفوظاتها. تبدأ بالسلع المرتبطة بمشتريات الأطفال، مثل بطاطس ليز، بسكويت أرنو، حلويات كاندي، حلويات توكس، دهان نوتلا، حلويات سنيكرز، حبوب أم أند أم، بطاطس تلكيز، بطاطس حار نار، بطاطس دوريتوس. ثم تنتقل إلى المشروبات الغازّية التي كان يشترك في استهلاكها الكبار والصغار، والمأكولات السريعة التي كان يشترك في تناولها الفريقان أيضاً. وقفتُ أمامها مباشرةً، وأنا أهيّئ نفسي للتصفيق، ما إن تنتهي. 
كان ذلك المسرح في حديقة العامرات في مسقط، ينشط في أيام فعاليات مهرجان مسقط السنوي، الذي يستمر شهراً، مضيئاً الجنبات المظلمة للمدينة، حيث يقع هذا المسرح وملحقاته في طرف الحديقة. وفي أثناء المهرجان، تتوالى العروض المتحرّكة على خشبته، وتتحوّل سلسلة ملحقاته إلى سوق تكثر فيه معروضات دولٍ عربيةٍ وغربية. 
لا يمكن أن تسأل طفلاً عن سلعة للأطفال، ألعاباً كانت أو مأكولات، من شركةٍ تدعم إسرائيل إلا ويحفظها، وغير مستعدٍّ أن يساوم عليها. يمكنه أن يبكي، إذا أصررتَ على إعطائها له، ولو من باب المزاح والاختبار. الأطفال لا ينسون، ستظلّ هذه السلع ساكنة في ذاكراتهم. حاولتُ أن أغري مجموعة من الأطفال في الحديقة على أن أحضر لهم "بيبسي كولا" أو "بيتزا هت" بدون مقابل. جميعهم رفضوا العرض نهائياً، والسبب لأن هذه السلع ممن "يساعدون إسرائيل التي تقتل الأطفال الفلسطينيين".
أصبحت بعض هذه السلع التي تكون بأعداد كبيرة مأكولات، والأخرى ملبوسات أو إلكترونيات أو كماليات، في محلّ حذرٍ شديد من المستهلكين، كباراً وأطفالاً، وأصبح الخجل يسري في نفس كل من يدخل. أخيراً، ذهبتُ مع ابن أخي إلى مول تجاري، واقترحتُ عليه أن نجلس في مقهى لنتحدّث. اكتشفتُ أنه تلافى مجموعة كبيرة من المقاهي الفارغة، لنجلس في مقهى تُركي يعرفه. كان، طوال الوقت، يبحث عن مطعم بريءٍ من تهمة دعم إسرائيل. ولا بد أن عشراتٍ غيره يفعلون ذلك، حين ترى مثلاً أن محلّاً ضخماً، مثل كارفور، شبه فارغ في جميع الأوقات، بعد أن كان مضرب مثل للزحمة الشديدة. وتجد محلات مأكولات أميركية يصفّر فيها الصمت.
وبالعودة إلى مقاطعات الأطفال، أخبرني صديقٌ بأنه أحضر لأولاده مرّة بسكويت أوريو، فما كان من أبنائه إلا أن اتهموه بدعم إسرائيل. لم يكن يعرف أن هذا البسكويت ضمن قائمة الممنوعات لدى الأطفال، فما كان منه إلا أن أخذهم معه لإرجاعه إلى المحلّ الذي اشتراه منه، حتى يطمئنهم، ويزيل التهمة الخطيرة من عقولهم. أخبرني أحد المدرّسين عن طلابٍ رسموا علم إسرائيل بالقرب من سلّة المهملات، وذلك حتى يطأوا العلَم بأرجلهم في طريقهم إلى رمي الوعثاء في تلك السلة. قد يختلط ذلك الفعل بالمرح أحياناً، ولكن لذلك كله معنى الجدّية عند الأطفال، ألم يقل بورخيس: أنا أكتب بجدّية طفلٍ يلعب. 
نجد في رواية ميلان كونديرا "البطء" فقرةً عن أطفال أوروبيين جمعوا أموالاً لمساعدة أطفال الصومال في أثناء المجاعة التي ألمّت بها في التسعينيات. يعرف الأطفال ما يفعلون، ولكن لا يجب أن نغفل دور الكبار في تلقينهم وهم يتحدّثون بالقرب منهم عن مجازر الصهاينة الوحشية في الشعب الفلسطيني الأعزل، وتعرضها الشاشات، وليس لهم من حيلةٍ سوى كفّ أيديهم وشهواتهم عن سلعٍ طالما غُرموا بها، نوعاً من المقاومة لا يمتلكون غيره. لتتحوّل هذه السلع إلى سمٍّ أو عدو قاتل في نظرهم. صور عديدة ومواقف يصعب حصرها لأطفالٍ صغار لا يمكن مساومتهم على سلعةٍ، طالما بكوا من أجل الحصول عليها، ونراهم الآن يبكون لو أن أحداً مازحهم (بما يشبه الجدّ) لشرائها أو تذوّقها.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي