أربعون عاماً من الحرب

أربعون عاماً من الحرب

22 سبتمبر 2020
+ الخط -

في بلدان الحروب المتواصلة، كثيراً ما تكون ذاكرة العقل الجمعي، وتحديداً ذاكرة الأطفال، مرتبطة بالحرب، رائحة بارودها وصوت مدافعها ومشاهد خرابها وتداعيات نهاياتها... لست استثناء في هذا الصدد، ابن بلد حربٍ دامت طويلا، وطن حارب كثيرا، وما يزال. باكورة ذاكرتي أزيز الطائرات، أزيز حرب السنوات الثماني وما بعدها أيضا. لا أدري إنْ كانت تلك الذاكرة مرتبطة ببداية المعركة الأولى، أو أنها لاحقة. ما أذكره أني حضنت أختي الأصغر مني، وتبادلنا الصراخ والعويل والبكاء وكأنها نهاية العالم.
في 22 من سبتمبر/ أيلول، بدأت الحرب العراقية الإيرانية. اختلف العالم في من بدأها، لكن الأمم المتحدة أعلنت لاحقاً أنّ بغداد كانت البادئة. كثيرون منا كانوا عارفين بمن بدأ، غير أنّ بعضنا، وهذا ما أظنه الصحيح، رأى البداية عراقيةً فيما قرار مواصلتها إيراني. بدا ممكنا أنّ الرعب قابل للنهاية لو أقرّ الزعيم الإيراني السابق، الخميني، النهاية مبكراً، لكنه تمسّك بمواصلة الحرب، وكأنه يغذي ما أشيع في أوساط الجيش الإيراني وقتها أنّ "كربلاء خلف الساتر"، جاعلا المعركة أطول، على أمل النفوذ داخل جاره الغربي. إنه الهدف المرتبط بنظام ثيوقراطي مقابل آخر شوفيني.

خرج العراق منهكاً، وخاسرا جزءاً مِن شعبه من دون استعادة شيء، بما في ذلك السيادة الكاملة على شط العرب التي تنازل عنها نظامه في اتفاقية الجزائر عام 1975

فشل البلدانِ ونجح النظامان. خرج العراق منهكاً، وخاسرا جزءاً مِن شعبه من دون استعادة شيء، بما في ذلك السيادة الكاملة على شط العرب التي تنازل عنها نظامه في اتفاقية الجزائر عام 1975. وخسرت إيران عدداً أكبر من أفراد شعبها، ولم تحتج ستة أعوام، بعد عام 1982، لتأكيد مناصفتها السيادة على الشط المهم ملاحياً، فنظامها كان قادرا على وضع حد للمواجهة في ذلك العام، بعد أنْ استرد ما سيطر عليه الجيش العراقي. وربح النظام في بغداد. منع، مؤقتا، تصدير الثورة المجاورة إليه، وأخّر تفكير شعبه في الخلاص منه. أما الآخر في طهران، فإنه استطاع أنْ يستثمر الحرب لتوجيه شعبه نحو نقطة العدو الخارجي، متخلصاً بذلك مِن معارضة قومية ويسارية وليبرالية كادت أنْ تطيح ثيوقراطيته.
هذه تداعيات الحروب. في أكثر الأحيان، تربح الأنظمة وتخسر البلدان. السلطات غير المتصالحة مع مجتمعاتها ليست قادرة على الصمود بدون إيجاد أسباب الحرب. إبعاد الشبان نحو الجبهات خيار مناسب للحيلولة دون امتلاكهم فرصة التغيير، وإشغال الأسر والمجتمعات الصغيرة في يوميات المعارك حائلٌ أمام الانشغال بالحياة السياسية اليومية.

السلطات غير المتصالحة مع مجتمعاتها ليست قادرة على الصمود بدون إيجاد أسباب الحرب

والآن، بعد أربعين سنة من الحرب، لا يبدو أنّ العراقيين تعلّموا درس أنها خيارٌ لا يمكن ربحه شعبياً، حتى في حالات كونها مواجهة عدوٍّ لم يترك فرصة أخرى، ودرس أنها ربح للأنظمة التي لا تخسر، ما دامت باقيةً، حتى لو خسر الناس والوطن. هذا ما اختصره رئيس جهاز المخابرات في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي وبداية التسعينيات، وفيق السامرائي، حين روى أنه أدرك معنى النصر في قاموس الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، يوم انتهت حرب الخليج 1991، وجلس على كرسيه متنفسا الصعداء، وقائلا "انتصرنا"، على الرغم من الهزيمة غير المسبوقة في الدولة العراقية الحديثة.

حين نتحدّث عن الشرق الأوسط، فإننا نشير إلى أكثر بؤر الأرض تخمةً بالقسوة والدم

وفي مرحلة ما بعد 2003، لم يعد هناك نظام بالمعنى التقليدي للكلمة، بل جماعات سياسية أو مسلحة، كانتونات يشارك كل منها نظاما في إدارة عملية سياسية ويتربح منها، وينافس الأخرى على مدى النفوذ داخلها ومستواه وحدوده، ومِن ثم داخل البلد نفسه. هذه الأنظمة المتعددة تدير البلاد بشروط الحرب نفسها. مثلا، وجد رجل الدين المثير للجدل، مقتدى الصدر، في بدايات ظهوره، أنّ القادمين من خارج الحدود، يريدون إدارة العراق منفردين، فبدأ باستخدام استعراض السلاح ضد العراقيين أنفسهم، مؤسسا ما عرف بـ "المحاكم الشرعية"، ثم ضد السلطة الجديدة والأميركيين، عبر تشكيل "جيش المهدي" أول فصيل مسلح رسمي يؤَسس بعد 2003. وهذا ما فعلته المجاميع التي استقطبت الحركات الجهادية، القاعدة وغيرها، وشكّلت لنفسها وجوداً مقاتلاً يواجه الأميركيين والجيش المحلي الجديد. آلاف القتلى من الناس سقطوا بسبب تلك المعادلة، والشبان الذين نسوا تاريخ الحرب ومأساتها اندفعوا ليحققوا إرادة من يتربّح من خلال المعارك. الأيديولوجيا والمقولات السياسية العريضة بدورها غواية تنسي الشعوب ذاكرتها وحكمتها.
تدلُّ التجربة الراهنة، بكل تفصيلاتها، بإشارات عديدة على أنّ الحروب المتتابعة لم تكن درساً أبداً، هناك استعادة لها. كشف زمن رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، عن إرادة وإصرار على تكريس ذهنية الحرب وثقافتها. كان الرجل مولعاً بوضع البلاد دائما في لعبة الطوارئ. وفي نهايات عهده، أراد استثمار الحرب ضد الخلافة الإسلامية لإيجاد ثنائية قائمة على الثأر وتصفية الحسابات، فضلا عن توجيه العقل الجمعي في هذا الاتجاه. وحين أُبعد من منصبه، لم تفعل الحرب ذلك، بل المعادلة السياسية داخليا وخارجيا.
ليس المالكي استثناء، على الرغم من أنه النموذج الأكثر تورّطاً، لطول مكوثه في الحكم ولذهنيته القبلية التي لم يغادرها خلال حياته في مدن كبيرة. وهذه المنظومة القائمة على الحرب تمتلك دائما ذرائعها، فحين نتحدث عن الشرق الأوسط، فإننا نشير إلى أكثر بؤر الأرض تخمةً بالقسوة والدم. بمعنى آخر، يمتلك حكم العراق باستمرار ديمومة الحرب وذرائعها، ما دامت المجتمعات العراقية، على الرغم من الحروب المتواصلة أربعين عاما، تراوح مكانها أمام فهم تلك الذرائع، ومنع توجيه الحروب باعتبارها أغنية، وليس خسارة فادحة.

عمار السواد
عمار السواد
عمار السواد
إعلامي وكاتب عراقي، يعمل في التلفزيون العربي، ويقيم في لندن
عمار السواد