أحاديث تشرينية

أحاديث تشرينية

15 نوفمبر 2020

(محمد العامري)

+ الخط -

في تقويمنا، نحن السوريين، يُعرف شهر نوفمبر باسم تشرين الثاني، وهو شهر بارد، أو كما يقول الأتراك Ayaz، وقد اشتق الشاعرُ اللبناني الكبير ميشال طراد من اسمه صفةً لأجنحة العصافير المقرنسة من البرد، إذ قال مخاطباً الطفل الذي يرقد مريضاً في كوخ فقير: "وقفوا عَ شبّاكَكْ يدقوا العصافير، بجوانحُنْ، يا جوانحُنْ المتشرنين..". وهو شهرٌ منحوسٌ في معظم أحداثه وتواريخه، ففي اليوم الثاني من تشرين الثاني 1917، أرسل وزيرُ خارجية بريطانيا، آرثر بلفور، إلى اللورد روتشيلد، الشخصية البارزة في المجتمع اليهودي البريطاني، رسالةً تنص على أن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن (قومي) لليهود في فلسطين. وقد أصبح هذا الوعد ذكرى مشؤومة، سببت لنا، نحن شعوب هذه المنطقة، سلسلة كوارث وويلات ما تزال مستمرة. 

أغلب الظن أن الخلط البريطاني بين "القومي والديني" كان مقصوداً، وبخبث، فمن حيث المنطق؛ أنت تسأل رجلاً عن قوميته، فيخبرك أنه عربي، تركي، ألماني، كردي، شركسي .. ومن غير المتوقع أن يقول لك: أنا يهودي! وقد استفادت الحركة الصهيونية (لا تقل خبثاً عن اللورد بلفور) من ذلك الخلط؛ إذ حوّلته إلى عنصر جذب لليهود في العالم كله، وبالأخص الأغنياء وأصحاب النفوذ المقيمين في الدول العظمى، ثم أقيمت دولة اليهود، كما هو معروف، اعتباراً من منتصف شهر مايو/ أيار 1948، وسط هذه المنطقة المهمة على صعيد التاريخ والجغرافيا والثروات الطبيعية، وبمساعدة بريطانيا نفسها، وبترتيبها. 

ليس في نية كاتب هذه الأسطر تنصيب نفسه محللاً لتاريخ المشروع الصهيوني، وإنما أردت تسجيل ملاحظة تلحّ علي، أن الدولة اليهودية لم تقم، وتستمر، وتقوى، وتمتلك كل أنواع القوة (بما فيها القوة النووية)، بالدعمين، الأوروبي والأميركي، وحدهما، وإنما أيضاً استفادت من ضعفنا، وخيبتنا، وإصرارنا على الاحتفاظ بكل مقومات التخلف، فنحن نتفقد، بين حين وآخر، رصيدَنا من التخلف، فإن وجدناه متناقصاً سرعان ما نستكمله، ونعلن الحرب على مَن يدلي بفكرةٍ قد تؤدّي، لا سمح الله، إلى بعض التقدم! 

على ذكر "التقدّم"؛ كانت شعوب منطقتنا كلها، بعد حرب الخامس من يونيو/ حزيران 1967، غارقة في الهزائم التي تسبّبت بها الأنظمة التي تسمّي نفسها "تقدمية". أما السوريون فقد حلت بهم نكبة إضافية، تمثلت بوثوب الضابط المغامر حافظ الأسد إلى السلطة، يوم 16 تشرين الثاني 1970، ومباشرته العمل على تحويل سورية إلى جمهورية رعبٍ وراثيةٍ يمكن أن تُدَمَّر، وتُزَال من الوجود، قبل أن تحظى بالخلاص من هذا الوباء. 

حينما أبدع الشاعر الكبير نزار قباني قصيدته التي تشيد بانتصارات الجيش السوري في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وفيها قولُه: جاء تشرينُ يا حبيبة عمري، أحسنُ وقت للهوى تشرينُ.. كان صادقاً مع نفسه إلى أبعد الحدود، ولم يكن يعرف (ونحن مثله) أن حافظ الأسد دخل تلك الحرب ليطمس السردية القوية التي تحدثت عن كونه قد أمر بالانسحاب الكيفي من القنيطرة 1967، متخلياً عن مرتفعات الجولان الاستراتيجية لصهاينة بلفور من دون قتال. 

دعونا نختم هذه الأحاديث بحكاية: عشية الإعلان عن قيام الدولة اليهودية 1948، هبّت شعوب منطقتنا للتصدّي لها، ولكن بطريقة "الفَزعة" (عليهُم عليهُم)، فتمكّنت منهم العصابات اليهودية المنظمة، المدعومة، المدرّبة، وألحقت بهم وبحكامهم هزيمة منكرة.. ويحكى أن أحد ألوية الجيش المصري حوصر في منطقة الفلوجة، وخلال الحصار تفتقت مخيلة أحد الضباط عن فكرة كتابة رسالة إلى سيدة الغناء العربي أم كلثوم، يطلب فيها الجنودُ المحاصرون أن تغني في الخميس الأول من الشهر المقبل أغنية "غلبت أصالح" التي كتبها أحمد رامي ولحنها محمد القصبجي، وأم كلثوم المعروفة بحبها بلدها وشعبها غنت الأغنية المطلوبة، وأضافت عليها "أنا في انتظارك" كلمات بيرم التونسي وألحان زكريا أحمد.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...