أبو الغيط يجيب .. كيف ضعفت مصر وتراجعت مكانتها؟

أبو الغيط يجيب .. كيف ضعفت مصر وتراجعت مكانتها؟

21 ابريل 2021
+ الخط -

لعل أهم ما ورد في مذكرات وزير الخارجية المصري السابق، أحمد أبو الغيط، المنشورة في يناير/ كانون الثاني 2013 بعنوان "شهادتي"، رؤيته أسباب تراجع مصر ومكانتها الدولية خلال السنوات الأخيرة من حكم حسني مبارك، خصوصا أن أبو الغيط، الذي تولى وزارة الخارجية منذ يونيو/ حزيران 2004 وحتى مارس/ آذار 2011، كان أحد أهم رجال النظام، وعلى معرفة جيدة بمواقفه الخارجية، وربما الداخلية أيضا، كما لم يعرف عنه معارضة النظام المصري قبل خروجه من السلطة أو بعده، ما يجعله بعيدا عن شبهة التجنّي على النظام. ومع ذلك يتضمّن الكتاب نقدا صادما لمواقف كثيرة للنظام تجاه قضايا السياسة الخارجية المختلفة، ولأسلوب صنع القرار، وشرحا مفيدا لكيفية تراجع مصر ومكانتها الدولية قبل ثورة يناير 2011. ولعل السبب الأول الذي يكشفه الكتاب طبيعة النظام المصري نفسه، فالنظام استبدادي رئاسي يتحكّم فيه مبارك، والمحيطون به، بعملية اتخاذ القرار. وهنا يقول أبو الغيط إن "الرئيس المصري، سواء في عهود عبد الناصر، السادات، أو مبارك، هو الفاعل الرئيسي وصاحب القرار التوجيهي المؤثر". كما يستخدم عبارة شديدة الغرابة في وصف عمليه صناعة السياسة الخارجية تنمّ عن مدى تماهي الدولة مع شخصية الحاكم، حيث يقول: "كانت هناك تجمعات ومحاور كثيرة يجري إقامتها بين دول محورية تستهدف إعادة صياغة الوضع الدولي وقوى التأثير فيه ... ولاحظت هنا أيضا أن مصر و/أو الرئيس لا ترصدها أو تسعى للتفاعل معها بشكل يؤمن الوجود المصري في وسطها". ولعل عبارة "مصر و/أو الرئيس" توحي بأن عدم رؤية مبارك أهمية دولة أو تجمع دولي ما كان يعني أن مصر لا تراها، في إشارة مبطّنة لمدى غياب الدولة ومؤسساتها عن عملية صنع القرار كما هو متعارف عليه في الدول الديمقراطية.

استبداد مبارك ارتبط بقدر من العشوائية والشخصنة في اتخاذ القرار، إلى درجة أثرت على علاقة مصر بالدول الصاعدة والكبرى

وهنا ينتقد أبو الغيط "غياب مفهوم "مجلس الأمن القومي" في أثناء فترة حكم الرئيس مبارك واعتماده فقط على سكرتير المعلومات بمفرده، أو على رئيس الديوان، وربما نجله جمال في اتخاذ القرار من دون العودة إلى كبار مستشاريه، وكيف أن ديوان مبارك كان يجري أحيانا اتصالات مباشرة مع السفراء الأجانب لترتيب زيارات لمبارك أو لنجله إلى عواصم غربية من دون علم الخارجية المصرية. ثانيا: يقول أبو الغيط إن نظام مبارك مع استبداده لم يمتلك مشروعا تنمويا حقيقيا لتطوير مصر وشعبها ومواردها، وهو نقد شاركه فيه كبار مسؤولي النظام، كالسفير سليمان عواد سكرتير مبارك للمعلومات، حيث كتب يقول: "كان تقديرنا، طوال هذه السنوات الأخيرة، سليمان عواد وأنا، أن غياب الرؤية الفلسفية لتوجهات الحكم كان وراء الفشل. كان التركيز، طوال الوقت، على إقامة البنية التحتية. ولعقود ممتدة ركز الرئيس على دراسة إحصائيات التوسعات في طاقة الكهرباء/ إنتاج الإسمنت / بناء المناطق الصناعية / إقامة محاور الطرق بالقطر، وهكذا، ولم يكن هناك التركيز المطلوب على بناء شخصية الإنسان، التعليم، مكافحة الفساد، سيادة القانون، إتاحة المشاركة المجتمعية في الحكم".

أدى ذلك إلى تراجع إمكانات مصر الاقتصادية، ومن ثم السياسية. وهنا يشير أبو الغيط إلى إحراج كان يشعر به، بصفته وزير خارجية مصر، من المساعدات التي اعتاد أن يطلبها مبارك بشكل مستمر من بعض الدول العربية الثرية، لتغطية احتياجات مصر الأساسية، حيث كتب يقول: "كانت مصر لا تتردد في أن تطلب مساعدات من الدول البترولية، مما كان يُشعرني في الكثير من الأحيان بقدر كبير من الإحراج، إن لم يكن الضيق. كان مبارك يقوم بطلب، أو يكلف أحد كبار المسؤولين المصريين، بعرض الاحتياجات المصرية الضاغطة والضرورية على قيادات هذه الدول. يطلب قاطرات من قطر وليبيا، وتقدم هذه الدول التمويل المباشر للاحتياجات المصرية، وتغرق العبارة المصرية في البحر الأحمر، ويسرع مبارك بالتعبير للسعوديين عن حاجته لتمويل شراء عبّارات جديدة، وترتفع أسعار الغلال، فيأتي طلب مصري للإمارات والسعودية لتمويل الملايين من الأطنان من مشتريات القمح".

ثالثا: أدّى ما سبق إلى امتلاك الدول الخليجية الثرية، خصوصا السعودية، نفوذا واسعا داخل مصر ووسط النخبة السياسية الحاكمة. وهنا يقول أبو الغيط: "تبينت فور تحملي المسؤولية، وزيرا للخارجية، أن العلاقة المصرية السعودية هي فعلا عميقة .. وفي هذا الصدد، رصدت المساعدات المالية والاقتصادية التي يستخدمها السعوديون للتأثير على الكثير من المواقف والقرارات المصرية... فكانت هناك وديعة مالية تقدم في وقت الحاجة .. كما كانت هناك أيضا هدايا، بناء على طلب مصر، بمشتريات تبلغ مئات الملايين من الدولارات من الأقماح التي تحتاجها مصر سنويا... واكتشفت بالتالي، وبسرعة، أن السعودية لها صوتها المسموع في مصر".

زاد من ضعف مبارك رغبته في توريث الحكم، والتي جعلته يخضع لضغوط خارجية، خصوصا من أميركا رغبة في موافقتها على سيناريو التوريث

رابعا: استبداد مبارك وافتقاره للمشروع التنموي ارتبط أيضا بقدر من العشوائية والشخصنة في اتخاذ القرار، إلى درجة أثرت على علاقة مصر بالدول الصاعدة والكبرى، حيث كتب يقول: "كان الرئيس، على سبيل المثال، يرفض زيارة الهند لسنوات ممتدة لأسباب غير معروفة لي، رغم الإلحاح المستمر من جانبي... كما رفض زيارة بريطانيا منذ عام 2004 لتجربة شخصية غير مريحة في زيارة له للعاصمة البريطانية في عام 94 أو لما تصوره برودا بريطانيا في التعامل مع قرينته في زيارة لها للندن بمفردها".

ولهذا يتحدث أبو الغيط باستمرار خلال كتابه عن تجاهل مبارك تجمعات دولية عديدة، مثل اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة واجتماعات مجموعة العشرين والنمور الآسيوية والدول الصاعدة في أميركا اللاتينية والدول الأفريقية نفسها، وكيف أن علاقاته الخارجية اقتصرت على بعض العواصم الغربية، كبرلين وباريس وروما، وبعض الدول العربية التي يزورها بشكل متكرر من دون سبب سياسي واضح، مهملا تطوير مصالح مصر ونفوذها لدى دول أخرى عديدة. وهنا يشتكي أبو الغيط قائلا: "بعض المهمات الخارجية لم يكن لها هدف محدد، سوى الحفاظ لمصر أو الرئيس على صورة... الحركة النشطة الدؤوب.. في اتجاه قوى وشخصيات تحظى برضانا".

خامسا: يتحدّث أبو الغيط، في كتابه، بشكل متكرر للغاية عن تقدّم مبارك في العمر، وكيف أصبح ضعيفا، يظهر تأثير السن عليه بوضوح، ولا يحيط بالتفاصيل، يشعر بالملل، ولا يعطي وزراءه تعليماتٍ واضحة عما يريده منهم. لا يقرأ ويكتفي بالحديث المقتضب مع وزرائه، فعندما تولى أبو الغيط وزارة الخارجية في يونيو/ حزيران 2004، لم يجلس معه مبارك لشرح سياساته الخارجية، ولم يلتق معه إلا بعد شهور. وهنا يقول: "لمفاجأتي في بداية عملي معه في عام 2004، فقد ظهر شخصا مختلفا متقدّما في السن أخذ حزمه وتركيزه يتناقص مع مرور الأعوام التالية. وقد أتاح ذلك الأمر لي بعض الحركة، إلا أن السلطات الرئاسية والأسلوب المركزي في السيطرة بقي معنا حتى النهاية". ويقول في مواضع أخرى: "الرئيس ومع تقدم سنة لم يعد يستطيع السيطرة على تفاصيل القضايا المطروحة"، و"كان التقدم في السن قد ظهر جليا على أداء الرئيس خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة 2008 / 2009/ 2010".

يقول أبو الغيط إن نظام مبارك مع استبداده لم يمتلك مشروعاً تنموياً حقيقياً لتطوير مصر وشعبها ومواردها

سادسا: زاد من ضعف مبارك رغبته في توريث الحكم، والتي جعلته يخضع لضغوط خارجية، خصوصا من أميركا رغبة في موافقتها على سيناريو التوريث، ويزيد من الصراعات الداخلية داخل الحكومة المصرية نفسها رغبةً في كسب ود جمال مبارك. وهنا يشير أبو الغيط إلى أن جذور مشروع التوريث قديمة، تعود إلى ما قبل تولي أبو الغيط وزارة الخارجية، حيث يقول إن عمر سليمان أخبره "إن التفكير في عام 2003 وأيضا في عام 2004 كان في تغيير أحمد ماهر، ولكن بوزير أصغر كثيرا في السن لكي يستطيع التفاهم مع جمال مبارك". وهذا يعني أن مشروع التوريث يعود على أقل تقدير إلى عام 2003 وربما قبل ذلك، وذلك في ظل "محاولات مستمرّة لإخفاء أنشطة نجل الرئيس الخارجية أو لقاءاته مع مسؤولي الدول في مصر أو بالخارج... وزاد هذا الوضع جلاء ابتداء من عام 2006 عندما كان كبار المسؤولين الأجانب يلتقون به دون كشف لهذه اللقاءات في مكتبه".

كما يتحدّث أحمد أبو الغيط عن تعاظم دور جمال مبارك وتأثيره على قرارات والده بشكل متزايد، وصولا إلى مستويات غير مسبوقة خلال ثورة يناير، حيث يقول إنه لاحظ عندما ذهب لأداء اليمين الدستورية في حكومة أحمد شفيق التي عينها مبارك بعد اندلاع الثورة أن "جمال مبارك، نجل الرئيس، دائم التحرّك بين مكتب الرئيس في الدور الأول، ومكتب رئيس الديوان في الدور الأرضي، وشكّل هذا الأمر بالنسبة لي وضعا جديدا، حيث لم يكن نجل الرئيس يظهر إلا نادرا في دهاليز القصر، ولكن ضغط الأزمة وتطوراتها أدّى إلى ظهور هذا الموقف المتطور... تقدّم سن الرئيس، وبالتالي ضعف الحسم، وأضيف هنا... زيادة اعتماده... إن لم يكن خضوعه لرؤية جمال مبارك الذي كان يوجد معه بالقصر أو المنزل طوال الوقت، وظهر ذلك لي بشكل بين عندما اقترحت عليه (أي الرئيس) الحاجة لبعض الإجراءات للتعبير عن تفهم الحكم لاحتياجات الشعب، فقال تحدّث مع جمال".

تعاظم دور جمال مبارك وتأثيره على قرارات والده بشكل متزايد، وصولاً إلى مستويات غير مسبوقة خلال ثورة يناير

سابعا: في مواجهة كل ما سبق، لم يتحرّك كبار المسؤولين المصريين للضغط على مبارك، أو مطالبته بالإصلاح أو الدفاع عن مصالح الشعب والبلد نفسها، فقد ظل ولاؤهم للرئيس وللنظام الاستبدادي حتى آخر لحظة، معتقدين أنهم بذلك يخدمون البلد أو الدولة المصرية. وهنا يتحدث أبو الغيط عن "تنامي سلطات نجله، والحديث المستمر عن الرغبة في حصوله على الحكم بعد والده أو أثناء حياته، وكنت أرفض بشدة هذا الأمر، وكثيرا ما تناولت المسألة مع عمر سليمان أثناء رحلات الطيران بمفردنا، وكانت خلاصة التقييم بعد الكثير من بحث الاعتبارات والمؤشّرات والتحرّكات أن هناك فعلا محاولة لفرض نجل الرئيس على البلد، لكن هذه المحاولة سيصيبها الفشل المؤكد، إذا ما تمت بعد اختفاء الرئيس بالموت، لأن القوات المسلحة وغالبية أجهزة الأمن القومي لن توافق على ذلك، وسيدعمها الشعب. وستبقى الخطورة إذا ما حاول الرئيس فرض ابنه على الوطن أثناء وجوده بالرئاسة. وكنت أبلغ عمر سليمان أنني لن أعمل في إطار هذا الوضع الجديد، ويجيبني وهو أيضا. وسوف يتوقف الأمر على المشير" (حسين طنطاوي).

وهكذا ضعفت مصر وتراجعت مكانتها. نظام استبدادي فردي سلطوي بلا مشروع حقيقي لتنمية البلد وشعبه، يدير البلاد بناء على أهوائه واعتبارات شخصية، متجاهلا ما يدور حوله في العالم. تقدّم في العمر حتى بات ضعيفا بطيئا غير حاسم، واقع تحت تأثير دائرة صغيرة من أسرته والمقرّبين، مشغول بتوريث ابنه للحكم، ولو قبل ببعض الضغوط الخارجية، ومحاط ببعض الموظفين الذين اعتادوا على التنافس على الفوز برضاه، يدعون خدمة البلد من خلاله، يصمتون على كل عيوبه، وربما تحدّثوا سرا عن بعضها فيما بينهم، متغاضين على أن للبلد شعبا هو الأوْلى بولائهم وخدماتهم.