آسيا مركزاً للصراع الدولي

آسيا مركزاً للصراع الدولي

11 يونيو 2022

علما الصين وباكستان عند مدخل طريق كاراكوم السريع بين البلدين (Getty)

+ الخط -

رغم استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا في شرقي أوروبا، يبدو أن الصراع الدولي الأساسي يدور في وسط آسيا بين النفوذين الأميركي والصيني، لا في أوروبا، إذ تركز إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، على محاصرة النشاط الصيني في تلك المنطقة، عبر إعادة بناء علاقاتها مع حلفائها هناك، وإقامة منظومة عمل مشترك تواجه التمدّد الصيني.

خلال زيارته المنطقة الشهر الفائت (مايو/ أيار)، بدا أن بايدن نجح في بناء تحالف يضم بلاده واليابان والهند وأستراليا لمواجهة الصين، وهي دول على خلاف تقليدي مع بكين، فضلاً عن تمتين العلاقة الأميركية مع كوريا الجنوبية. على الطرف الآخر، لا يبدو أن سقوط حكومة رئيس الوزراء الباكستاني السابق، عمران خان، الذي كان يعد حليفاً للصين، ستغير خطوط العلاقات الصينية الباكستانية، إذ ترتبط إسلام أباد وبكين باتفاقية لبناء ممر اقتصادي يعد جزءاً من مبادرة الطريق والحزام التي تنفذها الصين، ويقوم على تنفيذ مشاريع للبنية التحتية بقيمة 62 مليار دولار، تستهدف إقامة طريق تجارية بين الصين وبحر العرب عبر باكستان، وتمتد خطة الممر الاقتصادي طويل الأجل الذي أعلن عنه عام 2017 حتى عام 2030.

هذه المشاريع، فضلاً عن خصومتهما المشتركة تجاه الهند، جعلت الصين شريكاً تنموياً أساسياً لباكستان، من غير المعقول أن تتنازل أي حكومة في إسلام أباد عنه، وهذا ما يفسر مسارعة رئيس وزراء باكستان الجديد، شهباز شريف، إلى لقاء القائمة بأعمال السفارة الصينية في باكستان، وقوله لها إن حكومته تولي أهمية كبيرة للعلاقات مع الصين، وستواصل العمل مع بكين في بناء الممر الاقتصادي بمزيد من الحماسة. كذلك شأن زيارة وزير خارجية باكستان، بيلاوال بوتو زرداري، إلى جنوب الصين في أول زيارة خارجية له خلال الشهر الفائت، وناقش فيها التنسيق الاقتصادي بين البلدين ومشروع الممر.

 لا تعلن بكين طموحات إمبراطورية، بل تهدف من خطتها "الطريق والحزام" إلى إقناع دول العالم بجدوى الشراكة الاستراتيجية المستدامة معها

صحيح أن الحكومة الباكستانية الجديدة سعت إلى ترميم العلاقات التي تدهورت بشكل متزايد مع واشنطن خلال فترة حكم عمران خان، الذي اتهم الولايات المتحدة بالتدخل لإطاحته بحجة رفضه إقامة نقاط عسكرية أميركية على الأراضي الباكستانية تراقب الأوضاع في أفغانستان، عقب الرحيل الأميركي عنها وعودة حكومة طالبان لتولي زمام الأمور هناك، إذ زار وزير الخارجية الباكستاني واشنطن أيضاً، والتقى نظيره الأميركي، انتوني بلينكن، وبحث توسيع العلاقات، لكن تباعد البلدين يبدو أوسع من أن يجري تداركه بسرعة، لأنه ناتج عن عدة أزمات متتالية، ولا يتعلق بحكومة خان وحدها.

لا بد أن المناورات السياسية للحكومة الباكستانية الجديدة ترتبط بالأحوال الاقتصادية المتردّية في البلاد، كما كان الحال غير مرة. في البدء، عندما وافقت إسلام أباد على التقارب الاقتصادي مع بكين في 2017، مثل الأمر خياراً استراتيجياً جديداً نتيجة عدم تلبية طلباتها من القروض من جهة صندوق النقد الدولي في ظل تراجع علاقاتها مع الولايات المتحدة. هكذا كان "البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية"، الذي تديره بكين لتنفيذ مشاريع خطة الطريق والحزام، وتطرحه بديلاً دولياً عن صندوق النقد الدولي، خياراً باكستانياً للخروج من أزمة اقتصادية ملحّة، عبر التعاون مع الصين في مجالات الطاقة والنقل والصناعة والموانئ، وصولاً إلى تحسين الأحوال المعيشية للشعب الباكستاني. ولكن حكومة شهباز شريف تريد استعادة العلاقات السابقة مع صندوق النقد الدولي، والحصول على قروض جديدة لدفع الأحوال الاقتصادية قدماً، وربما يوفر هذا الطموح تفسيراً لسعيها تحسين العلاقات مع واشنطن، وتوسيعها عن مجرّد العلاقات التجارية كما قال وزير الخارجية في واشنطن، نظراً إلى انعكاس ذلك بالضرورة على موافقة الصندوق. كيف يمكن إذن أن تجمع إسلام أباد بين علاقات اقتصادية متينة مع الصين، تستثمرها بكين سياسياً، وعلاقات سياسية جيدة مع واشنطن التي تقيم حلفاً في آسيا يستثني باكستان، ويضم إليه الهند؛ خصمها اللدود؟

الولايات المتحدة تتعامل مع التمدد الاقتصادي الصيني مقدمةً لتغيير النظام الدولي

الاعتقاد أن نوعَي العلاقات متعارضان ليس موضوعياً تماماً. لا تعتبر بكين التقارب الباكستاني مع واشنطن، إن حصل، بمثابة ابتعاد عنها، على عكس واشنطن التي تعتبر العلاقات الاقتصادية الصينية الباكستانية خطراً داهماً يجب مواجهته، والسبب أن بكين لا تعلن طموحات إمبراطورية، بل تهدف من خطتها "الطريق والحزام" إلى إقناع دول العالم بجدوى الشراكة الاستراتيجية المستدامة معها، ما يعفيها مستقبلاً من مواجهة دولية يُعتقد أن الولايات المتحدة تسعى إلى حشدها، وترنو لها آجلاً بعد أن فشلت في نسج خيوطها مع حلفائها عاجلاً منذ تولي بايدن سدة الرئاسة في البيت الأبيض. وهذا يعني أن كل ما تريده الصين استمرار مشروعها مع باكستان لإقامة الممر الاقتصادي، حتى لو تحسّنت العلاقات بين باكستان والولايات المتحدة، لأن ذلك يضمن لها استمرار التوازن في وسط آسيا في مواجهة المساعي الأميركية لمحاصرتها اقتصادياً، تمهيداً لعزلها سياسياً.

المشكلة التي تواجه إسلام أباد، إذن، أن الولايات المتحدة تتعامل مع التمدد الاقتصادي الصيني مقدمةً لتغيير النظام الدولي القائم، وفرض معادلة جديدة يكون فيها للصين وحلفاؤها تأثير أساسي. وعلى هذا، سيكون تحسّن علاقات باكستان مع واشنطن، وتالياً مع صندوق النقد الدولي، رهناً بالثمن الذي يمكنها دفعه من دون المساس بمشروعها الاقتصادي مع بكين، ومن ثم عدم المساهمة في محاصرة الصين اقتصادياً. يبدو الأمر أكثر تعقيداً بعد زيارة بايدن إلى آسيا وتحول العلاقة الأميركية مع خصوم باكستان والصين على حد سواء إلى تحالف استراتيجي لمحاصرة الصين، وهذا يؤكّد أن الصراع الرئيسي في العالم يشتعل في وسط آسيا وشرقها، لا في أوروبا.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.