في ضيافة الفرزدق (3)

في ضيافة الفرزدق (3)

02 اغسطس 2021
+ الخط -

قُبيل بدء هذا اللقاء، مرّ -على الرصيف المقابل- فستان غوتشي يضيق بأنغلينيا ميتشيل وكريستين دانست، وعليه من العطور ما يذهب بالأفئدة قبل الأسماع والأبصار، وإذا بعمنا الفرزدق يتنهّد تنهيدةً يتحلحل من لهيبها ثهلان ذو الهضبات، ومسمر ناظريه إلى حيثُ الفستان وهو يأمرني -بصوت محمود درويش- "انتظرني"؛ فتميّزتُ من الغيظ ولا حيلة لي إلا الانتظار، وجلست -على الرغم مني- أقلِّب المسألة الفائتة على غير وجه.

عدت بشريط الذكريات إلى اللقاء الماضي، واستغربت صنيع الفرزدق وهو الشاعر الألمعي، كيف يخونه القول ويخذله فهم السياق وطبيعة المتلقي؟! وهل أبوح للفرزدق بهذه السقطة غير المحسوبة؟ ربما في نشوة الطرب التي تستبد به والتي استمدها من الفستان إياه- تقلِّل من غضبته وتلجم لسانه، عندها هممت ولم أفعل وكدت وليتني، إذ إن سماعه مديح خصمه -ولو بعد قرون تطاول عليها الأمد- قد يوقظ في نفسه كوامن الحقد، كما أنه ليس من الحكمة في شيءٍ أن أثير حفيظة ضيفي أو أن أتملقه؛ فأمسكت وانتظرت عودته -رد الله غيبته- وآثرت الاستماع إليه.

واسترجعت قول أستاذنا عباس العقاد "إن الصفات المحمودة عند العرب تلتقي جميعًا في صفةٍ واحدة هي الكرم، ويعنون بالكرم النسب الحر حين يصفون الرجل بأنه كريم النسب، وكانت الصفات المذمومة عندهم تلتقي جميعًا في صفة واحدة هي اللؤم، ويعنون به النسب المدخول أو الوضيع".

ولأن الفرزدق -الآن- في مهمة من مهمات عمر بن أبي ربيعة والعرجي، قلت في نفسي سأفتّش عن جملة من الرسائل الضمنية للقائه ونُصيب بن رباح، ودلالة تعليقه -أو إن شئت تعريضه- على إجادة نُصيب في مدح سليمان بن عبد الملك، ولعلك تذكر أنه قال (هو أشعر أهل جِلدته)، ولأن نصيبًا كان عبدًا أسود البشرة، فغمر الفرزدق في قناته ولم يُدخله في عداد عامة الشعراء المجيدين، وإنما حصره في إطار الشعراء العبيد!

اللمحة الثالثة والتي تمثل لنصيب عقدة نفسية أن الفرزدق يعرِّض بجرير بن عطية ويصفه بـ(العبد)، وهي للمناكفة الشعرية ليس إلا، في حين أن نصيب عبدٌ أعتقه عبد العزيز بن مروان

وهذه المقالة (أشعر أهل جِلدته) قد ضجَّ بها نصيبٌ وتضجَّر، وقد سمعها مرارًا قالها فيه جرير بل حتى في بلاط الخلفاء، إذ قالها له الوليد بن عبد الملك يومًا، وتبرَّم ابن رباح ساعة سمعها لكن ما باليد حيلة، في حين أن نفسه طابت برد سليمان على الفرزدق، إذ قال الخليفة لأبي فراس موبخًا لما قال (هو أشعر أهل جلدته)؛ فرد سليمان من فوره (وأهل جلدتك).

الرسالة الثانية نلتقطها من مقالة الفرزدق إن نسبه -وصولًا إلى معد بن عدنان- معروف للعامة والخاصة، فهذا يميزه عن منافسيه من الشعراء بمن فيهم نصيب، إذ هو عبد لا يتعدى نسبه ذكر أبيه ومختلف في أصله، وإن غلب على الظن أنه نوبي لأبوين نوبييْن سبييْن لخزاعة، وهذا يفسر عدم ذكر نصيب لأبيه في شعره -ويتفق معه في هذه الصفة أبو الطيب المتنبي لاحقًا- إذ لم يجد في أبيه ما يفخر به؛ فضرب عن ذكره والفخر به صفحًا، بينما السيرة الذاتية لغالب بن صعصعة تشفع لابنه في أن يتغنى به ويرفع عقيرته بمدحه، وإن كانت كل فتاة بأبيها معجبة، فإعجاب الرجل بأبيه قد يربو على ذلك بكثير.

اللمحة الثالثة والتي تمثل لنصيب عقدة نفسية أن الفرزدق يعرِّض بجرير بن عطية ويصفه بـ(العبد)، وهي للمناكفة الشعرية ليس إلا، في حين أن نصيب عبدٌ أعتقه عبد العزيز بن مروان، ومن ثم فإنه لا طاقة له بالفرزدق إن دخل معه حلبة الهجاء، وعليه فقد آثر السلامة وقصر شعره على المدح والوصف والنسيب، ولم يرم بنفسه في أتون النقائض.

ينضاف إلى ذلك كله أن الرواة -تبعًا للشعراء- يبحثون ما وسعهم عن الأعطيات والنفحات والهدايا والمجاملات، ولذلك كان لجرير بن عطية أكثر من راوية على رأسهم مِربع، الذي توعّده الفرزدق بالقتل فطمأنه جرير (زعم الفرزدق أن سيقتل مِربعًا/ أبشر بطول سلامةٍ يا مربع)، وحسين الذي كتب الدامغة -وفي بعض المصادر الدَّمَّاغة- التي أخمدت بني نمير -آخر جمرات العرب- أبد الدهر (فغُضَّ الطرفَ إنك من نمير/ فلا كعبًا بلغت ولا كلابا)، وللفرزدق جملة من الرواة، لكن نصيبًا لم يجد راويةً يجمع شعره وينوِّه به ويروي عنه؛ لأنه عبدٌ ليس لديه ما يغري بالتسويق له والترويج لبضاعته.

لا يُهمل في هذا الصدد الموقف السياسي للرواة من الخلفاء، فمنهم ناقمون على بني أميّة، وقد عدّ نصيب نفسه أمدح شعراء عصره للخلفاء، ومن ثم فإن رواةً ليسوا بالقلائل غضوا عنه الطرف للأسباب السابقة معضّدة بهذا الولاء الأموي، فضلًا عن اتهامه بالغزل السياسي وتملُّق السُّلطة، ناهيك بأنه لم ينجر إلى الهجاء حتى يُقرن بالثلاثي الذهبي في النقائض؛ الفرزدق وجرير والأخطل.

سيقضي الفرزدق وطره ويعود، إذ طلب مكافأة مالية وها هي بين يدي، وكدت أسلمها له إلا أن الفستان أغراه، وفور عودته سيطالبني بها، وسيضطر -ولعل ذلك من يُمن طالعنا- لفتح ملف تحاشاه طويلًا، ملف مغامراته النسائية وكيف أوقع به جرير بن عطية، وأوجه الاتفاق في العربدة والخلاعة بينه وبين الأخطل التغلبي.