إيدي فان هيلين... غيتار بثقل المعدن وخفة الريشة

إيدي فان هيلين... غيتار بثقل المعدن وخفة الريشة

18 أكتوبر 2020
يكفي تحريك الآلة ضمن الذبذبات الكهرومغناطيسية المتشكّلة لكي تُحدث دوياً هائلاً (Getty)
+ الخط -

"نصل الآن إلى أحب فقرات العرض إلى قلبي". هكذا يخاطب مغني فرقة "فان هيلين" Van Helen، ديفيد لي روث، الألوف المؤلفة من المعجبين المحتشدين في حفل تاريخي أقامته الفرقة في مدينة نيو هيفن New Haven، البريطانية سنة 1986، داعياً مؤسسها وعازفها الرئيسي إيدي فان هيلين Eddie Van Helen، نحو وسط الخشبة لكي يُقدّم ارتجاليته الأسطورية على الغيتار الكهربائي المنفرد والمعنونة بـ"ثوران" Eruption، يستكمل بها مشوار تلك الآلة الخشنة والحديثة على درب موسيقى الروك أند رول الوعر.

على مسار المشوار، وبأيدي مواهب فذّة كجيمي هندركس وجيمي بيج، مروراً بإيدي فان هيلين (1955 - 2020)، الذي رحل عنّا في السادس من هذا الشهر، ستتجاوز بصخبها وضوضائها كونها آلة ضمن فرقة الروك Band مهمتها إسناد المُغني بالائتلافات الهارمونية المَنظومة إيقاعياً، لتغدو بين أذرع أولئك العازفين المبدعين وسيلة تعبير منفردة متكاملة ومكتملة بحد ذاتها.

لئن كانت "ثوران" فقرة ارتجالية تمتد لقرابة الربع ساعة من الزمن، فقد تعدّلت وتبدّلت بحسب تعدد الظهورات واختلاف الأجواء بين الحفلات. بيد أنها، مثلها مثل أي ارتجالية من أي نوع من الموسيقى خصوصاً، ومن فنون الأداء بشكل عام، تشترك تنويعاتها بموضوعات رئيسية يجري تحضيرها مُسبقاً بدربة واجتهاد، أو تُستدعى من مخزون العازف المحترف المتراكم عبر سنين طويلة من التعلم المستمر والتطور المضطرد.

تأتي ثورية بعض تلك الموضوعات التي طرحها فان هيلين على الآذان عبر فقرة "ثوران" من غربتها عن مناخات الروك أند رول التقليدية. فتراه بغتةً وقد ألقى بالريشة بعيداً، والريشة Pick، مثلثٌ بلاستيكي لدِن تُضرب به أوتار الغيتار الكهربائي الصلبة والمعدنية، ليُباشر عوضاً عنها بمداعبة مقبض الغيتار بأصابعه، مُستثمراً لواقط الصوت شديدة الحساسية المُثبّتة تحت الأوتار، والتي بوسعها أن تجس وقع أدق الاهتزازات وتُضخّمها عبر المكبرات لتتناهى النغمات من الهول والشدة كأصوات الانفجارات.

 

كما فعل من قبل أيقونة الغيتار الكهربائي الأفرو - أميركي جيمي هندركس Jimi Hendrix 1942-1970، يستفيد فان هيلين من واقع مرور التيار الكهربائي عبر جسم آلته، ثم تموضعها على مقربة من مُكعبات مكبرات الصوت العملاقة التي تُشكّل حقولاً كهرومغناطيسية تتشابك ببعضها ببعض وبالغيتار أيضاً. أضف إلى ذلك تقنية "دواسة التشويش Distortion Pedal"، المتداولة بين فرق الروك آند رول منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، ولاحقاً لوناً أساسياً لجنس الهيفي ميتال Heavy Metal.

بذلك يكفي تحريك الآلة ضمن الذبذبات الكهرومغناطيسية المتشكّلة لكي تُحدث دوياً هائلاً وهديراً كالذي تحدثه المحركات النفاثة. فيما مجرد التربيت على عنق وظهر الغيتار، يُحيله إلى آلة إلكترونية مستقبلية تستحضر كل الأمزجة الكهربائية الغرائبية كتلك التي للموسيقى التجريدية الحديثة.

بيد أن أيقونية "ثوران" تتجاوز الشكلي الصوتي إلى الموضوعي الموسيقي. فتسمع فان هيلين وفي خضم جعجعة غيتاره المشوش ولعلعة الأصوات الصادرة عنه يُقدم بطريقة مباغتة موضوعات مستوردة من أنماط لحنية باروكية قديمة تعود لحقبة القرن السادس عشر، بانتقالاتها الهارمونية النمطية وتراكيبها الكونترابونتية (أي نظم الأصوات المتعددة بأسلوب كتابة النغمات المتقابلة) من تلك النماذج أصداء مقاطع من مدونات موسيقية للآلات الوترية، ينفذها فان هيلين بمهارة فائقة باستعماله الريشة تارة، وتارة بالأصابع يجمع بها أكثر من وتر في آن واحد وأكثر من نغمة وبسرعة الريح.

كأن فان هيلين من خلال ذلك الإشباع الموضوعاتي يُقارب جنس الهيفي ميتال من بين أجناس موسيقى البوب المعاصر بصفته مُقابلاً لأسلوب الباروك من ضمن أساليب الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية. أوجه المقارنة تلك تكمن بجلاء لافت في ضخامة الأثر التعبيري المترتب على صخب المكبرات الصوتية في موسيقى الهيفي ميتال أو الهارد - روك، ثم كثافة العناصر وحدّتها، علاوة على بروزها ونفورها وعنفوانها، كما في موسيقى الباروك بمقارنتها شكلياً بأسلوب الروكوكو إبان القرن الثامن عشر. وخلافاً لخفة وطلاوة موسيقى الديسكو إبان عقد الثمانينيات من القرن العشرين.  

هو إذاً بمثابة تجسيدٍ لسمة "البراعة" Virtuosity، ذلك الإرث الذي تركه إيدي فان هيلين. براعة اشتهرت بها آلات عريقة كالبيانو والكمان والغيتار الخشبي الكلاسيكي. أما براعة فان هيلين المُحدثة فقد سارع النقاد في حينه إلى وصمها بالضحالة والعبث. فراج وصف ارتجالياته بـ"الفيرتيوزية الفارغة" Empty Virtuosity، لكونها تعتمد في مجملها على إصدار الضجيج وإهدار الصخب والتلاعب المحض كهربائي بهدير مكبرات الصوت.  

بيد أن في نقد كهذا إخراجٌ لإبداعات فان هيلين عن سياقها الفني وبيئتها السمعية وإسقاطها ضمن مناخات موسيقية أكثر جدية لا تتلاءم معها، بل وتتناقض حيالها بالمحصلة والنتيجة. لم يدّع رواد الهارد روك أو الهيفي ميتال يوماً أنهم موسيقيون يتوجهون إلى الطليعة وإنما إلى العامة. ليس نحو المسرح أو الجامعة أو الكنيسة وإنما نحو الشارع والنادي الليلي والاستاد الرياضي.

لم يكن همهم يوماً تهذيب القلوب والعقول وإنما تفجير الطاقات المحتقنة في أجسام اليافعين والمراهقين. بهذا، فإن تحقيق الشهرة وجني المال من مبيعات الأسطوانات وجولات حفلات ضخمة بسعة الميادين الرياضية كان ولا يزال هدف موسيقى الروك وأخواتها ولا يجوز تحميلها أكثر مما تحتمل، وعليه، فإن براعة فان هيلين ومساهماته تنسجم مع تطلعات جيله وروح عصره المُنفتح على الجماهيرية والرافض للنخبوية بأي شكل وأي صيغة، فنية كانت أم فكرية؛ فموسيقاه تجارية، تعترف بذلك ولا تستحي به. 

بالنتيجة، فقد واءمت فرقة فان هيلين بين ثقل الهارد روك زمان السبعينيات وخفّة البوب زمان الثمانينيّات، فأحسنت العبور بين الأحقاب الموسيقية الحديثة. صخب إيدي فان هيلين و"باروكيّته" وازنها وقابلها بنجاح غنج ديفيد لي روث وخفته. كلاهما قد أضافا، وبشراكة كل من أخوي إيدي عازف الطبل آنتوني وعازف غيتار الباص فولفغانغ فان هيلين، ذلك الطابع الأميركي القائم على الإفراط في كل شيء.

في الحركة على المسرح، وفي العزف على الغيتار، في الرقص والغناء، في العفوية وفي الارتجال، كما في التصنّع والافتعال، وفوق كل ذلك، في الإبداع والابتكار، سواء في طرائق العزف أو في أدواته، مهما تكن الغاية وسمة البراعة. ملآنة كانت أم فارغة.

المساهمون