"أنا هنا" لعباس أميني: إيماءات سريعة تؤكّد وجوداً مُغيّباً

"أنا هنا" لعباس أميني: إيماءات سريعة تؤكّد وجوداً مُغيّباً

16 أكتوبر 2020
شيرين إسماعيلي في "أنا هنا": إعلان مبطّن عن قبول امرأة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

يُشكّل الإيراني عباس أميني (1982) من حكايتين متداخلتين، مكتوبتين من وحي إعلان عمّال حوض بناء السفن في أطراف مدينة عَبادان، إضراباً عن العمل، مشهداً سينمائياً شاحباً للمدينة. التدقيق في تفاصيله يُحيل إلى التفكير في أحوال مدن التخوم الجغرافية المتحرّكة، مُختلطة الإثنيات والثقافات، والمثيرة غالباً في نفوس قادة المراكز "النقية" الجذور قلقاً وتوجسّاً من صدق ولائها. لذا، يكون الإهمال عادة مصيرها. عَابدان ("آبادان" بالفارسية)، في روائيّ أميني "أنا هنا" (2020)، مدينة مُهمَلة ومنسية ومتروكة لمواجهة مصيرها لوحدها.

تَداخُل الحكايتين يُخبّئ أكثر مما يُعلن. مردّ ذلك حيطة وحذر من مصارحة ربما تُفسِد مشروعاً سينمائياً، ينشد الوصول إلى تخوم عوالم مسكوت عنها، يُراد لها أنْ تبقى مجهولة. هذا الإحساس متأتٍ من السرد الروائيّ نفسه، لا من "وثائقيّته"، مع أن الحكاية الأولى تتحمّل ثقل التوثيق، بانشغالها في تجسيد وقائع إضراب العمّال، احتجاجاً على سوء ظروف عملهم. تداخلُ الحكاية الثانية مع الحراك العمّالي ناشِئ من تشابك علاقات أبطالها، وصلتهم المباشرة مع نقابيّ ناشط، يموت في ظروفٍ غامضة.

نص أميني (سيناريو مشترك مع حسين فرخاده) حذر، يعوّض عن الفكرة المباشرة بـ"ميتافورات" وإيماءات سريعة، يمرّرها بين اللقطات. يجد في المكان فرصته للتعبير عن أحوال المدينة وسكّانها. هذا واقع بائس، سهل الالتقاط. بقليل من الذكاء، يمكن جعله مسرحاً تجري فيه أحداثٌ. الرهان على نقل الإحساس في العيش وسط البؤس والفقر والعزلة متروكٌ للكاميرا (تصوير محمد حدادي)، في سياق التقاطها الموازي للعلاقة العاطفية الملتبسة، القائمة بين شقيق العامل القتيل إبراهيم (أفشين هاشمي) وأرملته سلوى (شيرين إسماعيلي)، ولحدّة الصراع المتصاعد بين العمّال وأصحاب المصنع، بينما يظلّ موت أمين ممرّاً خفياً، يمكن عبره رصد تعقيدات اجتماعية وسياسية.

موت أمين يأخذ السرد إلى مواقع تتجاوز غموضه. لا ينشد عباس أميني تحويل نصّه، المهموم بأحوال مكانٍ مُهمَل، إلى مغامرة بحث وتقصّ بوليسيين. هناك علاقات خفية، يفضحها موت أمين، تُحيل إلى تشابك مصالح بين الدولة وأصحاب مصانع وشركات، تعاونوا معها في إطار توجّه غير معلن إلى خصخصة الإنتاج الصناعي. التسترّ يفضحه غياب صاحب حوض بناء السفن من الصورة. محاميه يقوم بما يريد، عارضاً تعويضاً مالياً للزوجة عن موت زوجها، مقابل تنازلها عن المُطالبة بمعرفة قاتله.

موته يُحيي مشاعر مكتومة يحملها أخوه لزوجته. اضطراب مشاعر يعقّد علاقات، ويُنشئ توتراً يشجّع على هروب بعيد. بعد موت شقيقه، لم تعد مشاعره تتحمّل الخفاء، ولا يمكن للمكان، بتحفّظاته وشروطه الأخلاقية، قبول تلك العلاقة.

 

 

"أنا هنا" إعلانٌ مبطّن عن قبول سلوى ككائن مستقلّ، لم تعد خاضعة ولا مجبرة على التوافق مع قواعد خنوع مجتمعي. الفقر وسوء الأحوال الاقتصادية يُمهّدان للشروع بأفعال متناقضة مع سائد مذهبيّ، يتجاهل التعددية، ويتنكّر لوجود الآخر المُغيّب. فقر الحال يدفع إبراهيم وصديقه إلى صيد الخنازير البرية، وبيع لحمها لمَنْ تسمح لهم ديانتهم بتناولها. هذا الحقّ يُقابله رجال الشرطة بالاستهجان والنكران. تعرّضهم للإهانة والضرب بسببها يمرّ في لقطة سريعة، تجسّد إذلالاً وجحوداً سلطوياً.

وضعٌ مَرضي يجسّده ميتافورياً مرض بقرة إبراهيم. رفضه ذبحها وبيع لحمها يزيدان الضغط عليه لقبول المساومة. على طول الخط، هناك مساحة يفرضها الفقر والبؤس، تسمح بالمساومة والتنازلات. البطولات في "عَبادان" قليلة. العمّال المضربون يمثّلون جانباً منها، لكنّ الخيارات قليلة، لم تترك لسلوى سوى القبول بالمال مقابل السكوت عن موت زوجها. التواطؤ ليس خياراً. إنّه، في نصّ أميني، نوعٌ من مساومات حياتية، يترفع عن محاكمتها أو إدانتها، وبدلاً منها يبحث لها عن تفسير، أحياناً لا يتحمّله الواقع، فيذهب إلى الحُلمي المتخيّل للتعبير عنه. في مَشاهد متكرّرة، يظهر فيها إبراهيم وهو يتطهّر من رجس امرأة، يصطحبها بين الأحراش وتظهر من جسدها أصابع يديها فقط وهي تُداعب أغصاناً أو وريقات خضراء. يبوح لها بما يشعر به، وبما يعانيه من حرمان عاطفي وضغط خارجي يفرضهما المكان على روحه وجسده.

"أنا هنا" صرخة تأكيد على وجودٍ في مكانٍ مُغيَّب، أو يُراد له التغييب. الحراك العمّالي والنهوض المتخيّل للبقرة من مرضها يُعبّران عن تأكيد وجودٍ، يأخذ أشكالاً تعبيرية عدّة في النصّ السينمائي، تُساعد على إيصاله موسيقى انفعالية ألّفها ميهران غايدي، تتكامل وظيفتها الدرامية مع أداء ممثلين رائعين، يؤدّون ـ كعادة السينما الإيرانية ـ أدوارهم كأنّهم يعيشونها في الحقيقة.

يظهر من واقع المدينة جزءٌ بسيط، يكفي للتعبير عن أحوالها، ويمكن لعباس أميني التمويه على فجاجته وقسوته، وإظهار ما تحت سطحه، إلى درجة تبدو فيها "عَبادان" مكاناً مُقفراً، العيش فيها لا يُطاق.

المساهمون