العروبة ذهابًا وإيابًا

العروبة ذهابًا وإيابًا

27 فبراير 2016
getty
+ الخط -
بعد تحرير الكويت من الغزو العراقي، ومع تبيان تبعات فترة الاحتلال الكارثية، وتكاليف التحرير المهولة، نشأ حوار وطني كويتي عنوانه "الدور أو الديرة"، انقسم المشاركون فيه، بين داعٍ للتخلي عن أية علاقة مع العرب، وأي دور مفترض للكويت في الصراع العربي الإسرائيلي، وفي دعم التنمية والثقافة في البلدان العربية، وبين راغبٍ في تعزيز هذا الدور، كشبكة أمان تحمي البلد من سيناريو مماثل في المستقبل. يبدو من مآلات الأمور، أنَّ وجهة نظر الداعين للديرة، قد تفوقت على الراغبين بالدور، فالجرح من الرأي العام العربي المنحاز بأغلبيته الساحقة لصدام حسين، كان حاداً. ولم تنفع الكويت وسائل القوة الناعمة التي امتلكتها، في مواجهة القوة الخشنة للجار البعثي العملاق.

هذا الطرح لم يقتصر على الكويت فحسب، فقد سبقتها مصر في العهد الساداتي، بداعي التعب من العروبة وأثقالها، والتفرغ لأحوال الداخل، وإن لم يكتب له أي نجاح، نتيجة رفضه من قبل المثقفين المصريين أساساً. أما النجاح الأكبر لخيار "اللاعروبة" هذا، فكان في لبنان! وكان بمثابة عقيدة مهيمنة لما يعرف بـ "المارونية السياسية"، قبل الحرب الأهلية اللبنانية وخلالها. تمثّل هذا الخطاب عبر مؤسّسات حزبية وإعلامية وثقافية مختلفة، وكان له دعم من الكنيسة والطبقة السياسية المسيحية في السلطة، وإن بقي تأثيره محصوراً ضمن لبنان. لكن في منتصف الثمانينيات، تأسست محطة تلفزيونية تدعى المؤسسة اللبنانية للإرسال (إل.بي.سي)، ستعمل هذه المحطة على نقل الخطاب الإعلامي لميليشيا القوات اللبنانية، وهي الميلشيا المسيحيّة المتصارعة مع ميلشيات الطوائف الأخرى في الحرب، وسيتميّز هذا الخطاب، خصوصاً للغرباء عنه، بميزتين. الأولى، فجاجته وصراحته في التعبير عن مكنونات سياسية وثقافية واجتماعية، مخالفة للرطانة العروبية الإسلامية السائدة في المنطقة منذ عقود. والثانية، نجاحه الباهر في تسويق نفسه وجذب المتابعين.

ظهرت هذه المحطة في فترة تحوّل الخطاب العصبوي المسيحي من العداء للفلسطينيين إلى العداء للسوريين، مع مفارقة أن جمهور المحطة الأول خارج لبنان كان في سورية، وفي الساحل السوري خصوصاً، حيث النواة الصلبة المؤيدة للنظام السوري. آنذاك كان وقت الهوائيات وليس الأقمار الصناعية، وبالتالي كان التقاط بث أية محطة تلفزيونية متعلقاً بالقرب الجغرافي، في حين كان التلفزيون السوري مثالاً للفشل.

فكان على السوريين البحث عن بديل، ففي الشمال كانت المحطات التركية، رغم عائق اللغة، وفي الجنوب التلفزة الأردنية والإسرائيلية، وفي الشرق العراقية، وقد فعلت السلطة المستحيل للتشويش عليها. أما الساحل المبهور بتلفاز أعداء النظام في لبنان، فبقي متنعماً بالمشاهدة دون أية محاولة تشويش، إذ يبدو أن السلطة تعمّدت ترك المجال مفتوحاً لخطاب عنصري بحق السوريين، جسّدته بعض دعايات المحطة، كتلك التي يكتب بها طفل على جدار "السوري عدوك"، ليقينها بأن ذلك يفيدها في شدّ العصب أكثر حول النظام وخياراته الإقليمية. ورغم قبضة الأمن الخانقة على ما يجب أن يقرأه أو يسمعه ويراه السوريون، إلا أن المحطة كانت متابعة بشكل علني، وكان عرضها لأحدث الأفلام والمسلسلات الأميركية، ونقلها المباشر لأهم الأحداث الرياضية، وبرامج الترفيه المحلية، مثار إعجاب وحسد لمتابعيها السوريين. وبقيت عقدة النقص لديهم تجاه الإعلام اللبناني لوقت طويل، إلى أن ظهرت الفضائيات، ونجاح الدراما السورية الباهر لاحقاً. غير أن العامل الأبرز في زوالها، كان تبعية المحطّة لاحقاً للطبقة السياسيّة التابعة للنظام السوري، هذه التبعيّة المتأتّية عن التفويض الدولي للنظام بالشأن اللبناني، كمكافأة له على المشاركة في حرب تحرير الكويت. وهكذا أثمرت هذه الحرب، جدلاً في إحدى أكثر الدول عروبية، حول مغزى العروبة!

إقرأ أيضاً:العراق: فنانون مصريون لدعم "الحشد الشعبي" مقابل مبالغ كبيرة

المساهمون