عودة كُتّاب القرية بمصر: خطوة إلى الأمام أو الوراء؟

عودة كُتّاب القرية بمصر: خطوة إلى الأمام أو الوراء؟

24 يونيو 2015
تنظيف الألواح بعد الكتابة في أحد "كتاتيب" السودان (Getty)
+ الخط -
 

هل يُعدّ قرار الأزهر ببعث "كُتّاب القرية" من رقدته خطوة إلى الإمام أم ارتداداً إلى الخلف؟ إذ يتضمن اعترافاً ضمنياً بفشل الأزهر في الاستفادة من المناهج التربوية الحديثة، واضطراره إلى العودة لنموذج من التعليم التقليدي ظلّ سائداً لقرون طويلة. في وقت يعاني الأزهر، باعتراف مسؤوليه، من تدني المستوى العلمي لدى الدعاة.

في الماضي كان حفظ "القرآن الكريم" كاملاً هو الشرط الرئيسي للالتحاق بالابتدائية الأزهرية. فضلاً عن الإجادة التامة للقراءة والكتابة وجودة الخط، وهي أوليات كان يقدّمها "الكتّاب"، ولم تعد متوفرة لدى معظم "خرّيجي" الأزهر حالياً.

"الكُتّاب" مصطلح تراثي يشير إلى تلك المدرسة التمهيدية المصغرة التي مرّ بها معظم المتعلمين القدامى في فترات طفولتهم، حيث يتحصّل الطفل على بعض المعارف الأولية التي تؤهله لاستكمال التعليم على أيدي المشايخ الكبار، أو حتّى في مؤسسات تعليمية كبرى كالأزهر أو الزيتونة. وفي "عصور الحريم" كان يُكتفى للفتيات بهذه المرحلة من التعليم.

في مراحل التميّز الحضاري (الفاطمي - المملوكي - العثماني) كان "الكُتّاب" أحد مفردات العمارة الإسلامية، وكان يُلحق بالجامع، أو مجاوراً له، وربما أقامه الشيخ في غرفة ببيته أو في مكان منفصل عن داره.

نشأ "الكتّاب" بصورة تلقائية فرضتها متطلبات الواقع الجديد، فمنذ الجيل الأول اهتم المسلمون بتعليم أبنائهم القرآن ومحو أميتهم اللغوية والحسابية، ثم انتشرت الفكرة في أرجاء العالم الإسلامي واستمرت إلى يومنا هذا. وفي سِيَرِ القدامى نطالع دورَ الكتّاب في تكوينهم الثقافي الأولي، كقول الإمام الشافعي: "كنت يتيمًا في حجر أُمِّي، فدفعتني في الكُتَّاب، فلمَّا خَتَمْتُ القرآن دخلتُ المسجد فكنتُ أُجَالِس العلماء".

وفي عصور النهضة كانت منه نقطة انطلاق جميع الرموز الفكرية على اختلاف توجهاتهم مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين. حتّى المشاهير من النساء المتحرّرات مررنَ بسيّدنا الشيخ وكتّابه، وحفظنَ القرآن الكريم، مثل ملك حفني ناصف وهدى شعراوي ونوال السعداوي وأم كلثوم. فقد كان "الكتّاب" هو ألف باء التعليم. وأحياناً كان الشيخ يُستدعى إلى بيوت الأسر الميسورة فيقوم بتعليم أبنائها وبناتها داخل المنازل.



كان وصف طه حسين لكتّاب قريته من أدقّ الأوصاف لكتاتيب الأرياف المصرية. كان يقوم عليه سيّدنا الشيخ "محمد جاد الرب"، الذي يجلس على دكّة مرتفعة، فيما يجلس تلامذته على الأرض. وهو رجل مسنّ ضعيف البصر، اتّخذ حجرة قريبة من منزله لاستضافة الصبيان. وهو يتحصل على أجر شهري من أهالي التلاميذ، وبعض الطعام الذي يرسلونه إليه من حين إلى آخر. لكنّه يحصل على مكافأة كبيرة من أهل التلميذ الذي يحفظ القرآن كاملاً. ويسمونها "الحلوان". وهي عبارة عن وجبة عَشاء دسمة، ثم جبّة وقفطان وزوج من الأحذية وطربوش مغربي وطاقية من القماش التي تتخذ منه العمام، وجنيه أحمر، ولا يرضى بشيء دون ذلك.

مع الشيخ يوجد "العريف"، وهو مساعده، ووظيفته أن يقوم بفتح الكُتّاب وتنظيفه ومتابعة الطلاب ثم إغلاق الكُتّاب بعد انتهاء اليوم الدراسي. وكان العريف يحصل مقابل ذلك على ربع دخل الكتّاب من مال أو طعام.

اقرأ أيضاً: القرآن يصدح في "آيا صوفيا" بعد 85 عاماً

من أشهر أدوات الشيخ لتسيير العملية التعليمية: "الفلقة" على القدمين (وينطقونها "الفلكة"). وهي طريقة عقاب حيث تُمسك قدما التلميذ المخطئ عن طريق العريف أو بعض زملائه، ثمّ تضربان بالعصا، ويسمون هذا العقاب: "المدّ".

كان الأهالي، خصوصاً في الأرياف، لا يعترضون على تلك الطريقة المؤلمة والمهينة في عقاب أبنائهم، لحسن مقصد الشيخ. وكثيراً ما يسمع من كبار السنّ أنه لولا فضل العصا والفلقة لما تعلّموا.

أما أدوات الطالب، قديماً، فكانت عبارة عن "لوح" خشبي، و"حبر" و"ريشة"، يكتب فيها مجموعة الآيات القرآنية المقرّرة التي سيحفظها الطالب ويقوم بـ "تسميعها" في اليوم التالي، وصار "اللوح" يطلق على مجموعة الآيات القرآنية.

ولا تزال آثار تلك الألواح القديمة موجودة بكثرة في بعض المجتمعات مثل موريتانيا. أما في مصر فقد تغير الحال، وحلت المصاحف المطبوعة والأوراق والأقلام محل الألواح والأحبار.

اقرأ أيضاً: تعليم القرآن مزدهر في سانت لويس السنغالية

ورغم أنّ وظيفة مؤدّب الصبيان كانت مرموقة وانتشرت في أرجاء البلاد الإسلامية، إلى درجة أن كثيراً من علماء اللغة والأدب مارسوها، فإنّها أيضاً حظيت بسمعة سيئة بسبب الدخلاء ممن لم يحظوا بمواهب تحفظ لهم كرامتهم ووقارهم أثناء تعاملهم مع الصبيان. بل كان الإمام السبكي يقول: "ينبغي أن يكون معلم الكُتّاب صحيح العقيدة، فقد نشأ صبيان كثيرون فاسدو العقيدة، لأنّ فقيههم كان كذلك".

كما سرد ابن الجوزي طائفة من أخبار المؤدّبين من الحمقى والمغفّلين. وأورد الجاحظُ مؤدبَ الصبيان من بين من لا تقبل شهادته في القضاء، لضعف عقله من طول معاشرته الأطفال



ساءت سمعة "الكتاتيب" بسبب هوان المشايخ على كثير من الناس. وكانوا يسمّونهم "الفقها" (مفردها فقي)، وينادى الواحد منهم بـ "سيّدنا". يقول أحمد أمين: كان الفقي (ينطقونها بالهمزة وكسر الفاء) في عهدنا يقوم بأعمال كثيرة. فهو يقرأ كلّ يوم صباحا جزءًا من القرآن في البيوت. ثم قام بدورهم "الراديو".

اقرأ أيضاً: طفل غزي مصاب بمرض "التوحد" يحفظ القرآن كاملاً

وهم يدعون أيضاً إلى قراءة جزء من القرآن، على القبور. ويعلمون الأطفال القراءة والكتابة، ولا يحسنون شيئًا إلا حفظ القرآن. وكثيرًا ما يكونون من العميان. وهم يدعون إلى القراءة عادة في الليل على الميت حتّى يدفن، وإلى قراءة "عديّة يس" والختمة، ونحو ذلك من الشؤون الدينية. ومنهم من يحترف كتابة الأحجبة والتعاويذ السحرية، وأصبح يقال لمن تزمّت وتشدّد وكان ثقيل الروح: "فقي" و"بلاش فقهنة".

تعرضت "الكتاتيب" إلى هجمة شرسة من التنويريين منذ مطلع القرن العشرين، بحجّة أنّها لا تلجأ إلى الطرق العلمية والتربوية الحديثة في تدريس الأطفال. وأُخِذَ عليها اعتمادها على الطرق التقليدية في الحفظ والتلقين، فتقلّصت أعدادها في المدن بصورة كبيرة. كما ضعفت أهميتها في القرى والأرياف، بعد أن قطع الأزهر صلته بها، مع تساهل المشيخة في شرط حفظ القرآن الكريم للالتحاق به، وإن كانت لا تزال أهمية "الكتّاب" قائمة لدى أسر المهتمين بتعليم أبنائهم تعليماً دينياً. وتكثر الكتاتيب بصورة عفوية في فترات الإجازة الصيفية وتنشط في شهر رمضان.

اقرأ أيضاً: تواشيح رمضان: هذه سيرته وهؤلاء نجومه

دلالات

المساهمون