مقدمة لـ مانيفستو فوق-النخبة العربية

مقدمة لـ مانيفستو فوق-النخبة العربية

21 مارس 2017
(همام السيد / سورية)
+ الخط -

الدادا هي حركة فنيّة طليعيّة نشأت في أوروبا بداية القرن العشرين كردّة فعل على الحرب العالميّة الأولى التي قامت -باعتقاد الدادائيّين- بسبب فساد قيم الحداثة والمجتمع الرأسمالي؛ فكانت تمثّل ثورة قائمة في جوهرها على رفض المفاهيم القديمة للجماليّات في الفن والأدب والموسيقى. وقد صوّرت الحركة هذا الرفض من خلال أساليب تعبيريّة تخلو من المنطق والترابط، وابتكار أشكال جديدة للفن والأدب، تشكّل تناقضًا صارخًا مع الأشكال التي سبقتها. فظهر مثلا ما يعرف بـ "شعر الصوت" الذي يخلو من الكلمات والمعنى (بتعريف "المعنى" السابق للدادا، انظر قصيدة هيوغو بول Gadji beri bimba)، كما تم ابتكار "تقنية التقطيع واللصق" التي وصفها الشاعر الروماني الفرنسي تريستان تزارا في بيانه الدادائي عام 1918 قائلًا:

"لكتابة قصيدة دادائيّة
خذ صحيفة وامسك مقصًّا
اختر مقالًا بطول القصيدة التي تنوي كتابتها وقصّه.
ثم بحذر، قم بقصّ كل كلمة في هذا المقال على حدة
وضعها في كيس ثم اخلطها بلطف
ثم أخرج القطع من الكيس واحدة تلو الأخرى
واجمعها من جديد بالترتيب الذي أخرجتها به
القصيدة ستشبهك
وها أنت ذا مؤلف أصيل حسّاس بشكل ساحر
ومع ذلك لا تحظى بتقدير قطيع المبتذلين".

حركة شبيهة غير ممأسسة، أسمّيها حركة "فوق-النخبة"؛ ظهرت في العالم العربي كردّة فعل على الربيع العربي، لا بصفته سلسلة من الثورات والحراكات الشعبيّة التي رفعت شعارات الحريّة والعدالة الاجتماعيّة، وإنّما بصفته حدثًا سياسيًا بيّن مدى هشاشة المنظومة القيميّة المحافظة لدى النخب السياسيّة والثقافيّة العربيّة. هذه النخب بشقّيها -إن صح التعبير- العلماني والديني أثبتت لجمهورها المتابع والمشارك أنّها نخب فاسدة أو رجعيّة أو جبانة في أفضل حالاتها؛، فالنخب التي كانت تتصدّر خطاب التنوير والتقدّميّة والحداثة، انحازت للأنظمة الفاشيّة وبرّرت كل أفعال الأخيرة، ابتداء من تكميم الأفواه، مرورًا بالتهجير والتعذيب، وانتهاء بالقتل والإبادة الجماعية.

أمّا النخب التي كانت تتصدّر منصّة الخطاب الديني "الثابت" -بحسب تعبير أدونيس- فهي نخب أبدت رفضها القاطع لأي "متحوّل" واستعدادها للتحالف حتّى مع من يفترض أنّهم خصومها الكلاسيكيّون للوصول إلى أهدافها التي اتّضح أنها أهداف حدّدت بالسالب؛ فليس لدى هذه الجماعات مشروع واضح المعالم (باستثناء مشاريع تبنى وتقام داخل اللغة ولا تتعدّاها)، بل إن كل مشاريعها قائمة على نفي المشاريع الأخرى.

وفي أثناء تقاذف الاتهامات والادّعاءات بين هذه النخب، والتي على ما يبدو أنّها لم تأخذ رمزيّة الميزان كشعار للعدل بشكل مجازي وإنّما اتّخذته بحرفيّة تامّة؛ حيث يكون هناك وجود دائم ومطلق للحق والباطل ينفي أي إمكانيّة لوجود آخر مختلف ويقلّص المساحة السرديّة إلى مكان لا يتّسع لأكثر من رواية واحدة، أخذت فوق-النخبة العربيّة تشقّ طريقًا ثالثًا بين هذه النخب، وصنعت كفّة ثالثة ورابعة وخامسة لميزان العدل النخبوي، عبر ما هو أكثر من السخرية أو المفارقات الفكهة؛ فقد نقضت حركة فوق-النخبة كل الإرث الأدبي السابق لولادتها عبر نصوص وصور ومنشورات شتّى يتم تداولها ومداورتها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي من قبل أشخاص فوق-نخبويّين، جعلوا من خطاب النخبة فكاهة أو محط سخرية، وهذه النصوص فوق النخبويّة طاولت بسخريتها كل ما هو نخبوي؛ سواء كان نصًّا يمثّل خطابًا دينيًّا أو خطابًا علمانيًّا سائدًا، خالقة بذلك حقلًا ثقافيًّا وسياسيًّا يعلو فوق خطاب النخبة من حيث إنّه عابر لثنائيّة الديني – العلماني.

وجاهة هذا الادّعاء تتضّح عند إلقاء نظرة سريعة على محتوى صفحة فيسبوك لأي شخص فوق-نخبوي، ومقالاته؛ فعند النظر إلى مجموع الآراء التي يعبّر عنها هذا الشخص، سيلاحظ أن ما كان يعتبر تناقضًا أو تباينًا شديدًا قبل ظهور الشخصيّة فوق-النخبويّة، أصبح الآن منطقيًّا ومتناغمًا، بل وخالياً من أي تناقض.

فمثلا ستجد فوق-النخبوي يقتبس ماركس، وبعد ساعات يقتبس آية من القران. كذلك ستجد لغته العربيّة فصحى سليمة في منشور ما، وعاميّة في منشور آخر. وتجد قصائد من العصر الجاهلي تتلوها مقاطع من أغانٍ شعبيّة. ستجد يساريًّا فوق-نخبويّ يدافع عن الدّين، ومتديّنًا ينشر أفكارًا شيوعيّة.. وهكذا؛ نافيًا بذلك منطق الثنائيّات الذي تبنّته النخبة سابقًا.

وفي حين أن الدادا كان لها أكثر من مانيفستو (مانيفستو هيغو بول 1916، ومانيفستو تزارا 1918) فإن مانيفستو فوق-النخبة لم يكتب بعد، ولا أعلم إن كان سيكتبه أحد في المستقبل، إلّا أنه واضح المعالم ومتّفق عليه ضمنيًّا بين أعضاء الحركة، ومذابة أفكاره في كل نص أو محتوى تتم مداورته بين هؤلاء الأعضاء، وهو يكاد يشكّل خطابًا متكاملًا يحمل مجموعة قيم فوق-نخبويّة تنفي معظم القيم والأفكار والمواقف السابقة لها.

إذا كانت الدادا هي الرحم الذي ولدت منه المدرسة السورياليّة في الغرب، وهي، برأي بعضهم، أوّل تمظهر لـ "ما بعد الحداثة" في القرن العشرين، فإن فوق-النخبويّة العربيّة، على ما يبدو، تحمل في داخلها قدرة كامنة لإنتاج مدارس وخطابات ثقافية وفنّية وسياسيّة جديدة قادرة على إعادة إنتاج المشهد الثقافي والفنّي والسياسي. وسواء كان فوق-النخبوي واعيًا لما هو عليه أو غير واعٍ، فهو يقدّم مثالًا جديدًا يضيف من خلاله صفات وخصائص جديدة على ما أطلق عليه المنظّر الإيطالي أنطونيو غرامشي اسم "المثقّف العضوي". ومع أن "الإنسان أسير أدواته" إلّا أنه، مع كل فعل فوق-نخبويّ يقوم به، يمهّد الطريق لولادة واقع ثقافي جديد يحاكي نمط الوعي فوق-النخبوي.

المساهمون