"الجيش والسياسة" لعزمي بشارة.. الدولة من الثكنة إلى العسكرة

"الجيش والسياسة" لعزمي بشارة.. الدولة من الثكنة إلى العسكرة

13 يونيو 2017
(تجهيز لـ أنتوني غورملي)
+ الخط -
في كتابه "الجيش والسياسة.. إشكاليات نظرية ونماذج عربية"، الصادر حديثًا عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يتقصّى المفكر العربي عزمي بشارة قضية مركزية في التاريخ الحديث للدول العربية ومفتاحية في آن، لفهم ورصد العلاقة بين المدني والعسكري، ودور المؤسسة العسكرية في التاريخ السياسي للبلدان العربية ومآلاتها الراهنة، فضلًا عن تعيين موقعها الحقيقي ودورها الوظيفي في الدولة ومؤسساتها وممارستها السياسية والحكم والأمن، وماهية علاقتها بالثورة والتغيير وفترات الانتقال السياسي والتحول الديمقراطي، خصوصًا أن العلاقة بين الجيش والسياسة لا تبدو منسجمة وواضحة، ويغلب عليها الخلط وعدم الدقة.
لذا، فإن الكتاب الذي يقع في 224 صفحة من القطع المتوسط، يركن إلى طرح مقولات علمية منضبطة داخل منهج متماسك، يؤلّف من خلاله مقارباته العملية لعدد من المؤسسات العسكرية العربية، التي انخرطت في العمل السياسي المباشر وصعدت للحكم، كعينة تاريخية يمكن تحليلها واستنتاج آراء ومقولات نظرية، تتحرّر من الصخب الأيديولوجي والأحكام المسبقة والخصومة السياسية والخطابات التعبوية السلطوية وإكراهاتها.

يبلور الكتاب فرضية أساسية مفادها أنه لا يمكن فهم نتائج التحول الديمقراطي المجهض في البلدان العربية، وكذا طبيعة الأنظمة السياسية المستهدفة في ثورات الربيع العربي، وفك الاشتباك حول الأطر القائمة عليها ومصادر شرعيتها ونفوذها السياسي، من دون الانطلاق من طبيعة العلاقة بين الجيش والسياسة، تلك العلاقة العضوية التي حظيت بها النخبة العسكرية واستمدت منها مشروعيتها، ونمت سلطتها العسكريتارية داخلها، مع نشوء دولة ما بعد الاستقلال العربية.

وبعيداً عن التعميمات والأحكام المغلقة، تجري المحاولات النقدية للكتاب على أسس معرفية تتبنى داخلها السياق التاريخي وشروطه لكل دولة، وارتباطه العضوي بالتاريخ المحلي والثقافة والبنى الاجتماعية والاقتصادية المؤسساتية، بالإضافة إلى اعتبار العلاقة القائمة في شروطها ورهاناتها الواقعية في البلدان العربية، بين الجيش والدولة وتأزمها أو التوتر القائم بينهما، يعود إلى جملة مراحل تاريخية تبدأ منذ نشوء هذه الدولة وصيرورتها وطبيعة بنيتها.

ثمة ملاحظة إجرائية نتوخى طرحها يتفرد بها الكتاب الذي عمد إلى صياغة رؤية جديدة ومفهوم مغاير عن السائد والرائج في المصادر الأكاديمية الغربية، وذلك في طرحه مفهوم الجيش باعتباره مهنة لها أحكامها الأخلاقية التي ينبغي الامتثال لها وتحدد مساره، فيما ميز المؤلف بين مفهومي الاحتراف والمهنية، وانحيازه للأول الذي صاغ وفق تبنيه له مقترحًا مفاده "تثقيف الجيش على الولاء لبعض القيم الديمقراطية غير الناشئة تلقائيًا عن المهنية العسكرية"، وذلك لتفادي العواقب التي قد يتعرض لها الجيش في ظل امتثاله للأحكام الأخلاقية بكل أبعادها، مثلما يضحي تدخل الجيش المصري مثلًا في الثالث من يوليو/تموز2013، عملًا مثاليًا وأخلاقيًا باعتبارات التعريف، الذي يقوم بشارة بتصفيته وينهي فاعليته.

ينطلق صاحب "سورية: درب الآلام نحو الحرية.. محاولة في التاريخ الراهن"، إلى تحديد تعريفات رئيسية، أولها أن الجيش هو "الجيش النظامي حول نواة من المحترفين المتفرغين للحياة العسكرية في زمني السلم والحرب"، ليضع حدودًا فاصلة ومتمايزة عن الجيوش غير النظامية وطبيعتها وماهية دورها التقليدي والقديم مثل "فيالق فرسان يلبون الدعوة إلى الخدمة العسكرية، ومعهم جنودهم، وينضمون إلى حملة عسكرية بناء على طلب الملك أو الإمبراطور، ويديرون إقطاعية في حياتهم العادية، أو يجبون الضرائب للسلطان، بالرغم من أن هذه الأخيرة سمّيت جيوشًا في الماضي".

وثمة أمر بديهي يفصح عنه بشارة يشير فيه إلى تطلع الجيش إلى السياسة بالمعنى الضيق الذي هو ممارسة الحكم والاستيلاء عليه، ورفض أي ادّعاءات نظرية أو عملية تصنعها أو تضع جدارًا فاصلًا بين الجيش والسياسة؛ حيث تتماهى الخطوط بينهما، بحكم تعريفهما بالأساس؛ إذ يتدخل الجيش في الحكم ويتحول إلى قوة قمعية، تدافع عن النظام القائم وسلطته وامتيازاته.

وذلك لأن القوات المسلحة ليست مؤسسة يتركز نشاطها في الأمن والدفاع، بل هي مؤسسة سياسية حتى في البلاد الديمقراطية. ففي هذه البلدان، مثل غيرها، تدعم المؤسسة العسكرية وتتخذ موقفًا تجاه عمليات الانتقال السياسي، سواء بتصديها لها وقمعها أو تأييدها من ناحية أخرى، أو انتظارها مرحليًا لما سيتمخض عنها حتى تتفاعل مع الواقع الجديد، ففي كل الأحوال يعني ذلك وجود موقف سياسي.

كما عرف القرن العشرون جيوشًا مسيسة أو بالأحرى عقائدية ومؤدلجة، مثل الحال في الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الاشتراكي؛ حيث كان الهدف المباشر من أدلجة المنتمين للجيش، هو تعزيز الانتماء لديهم والتزامه العقيدي للإيمان والاقتناع بدوره المنحاز والمؤيد للحزب الواحد.

عمد المؤلف إلى ترميم فجوة مهمة وتخطي الالتباسات غير المفهومة حولها، وذلك في وضع فواصل بين الجيش والسياسة تجعل الدور الوظيفي للأول محصورًا في الأمن، والثانية في الإدارة والحكم، بينما أضحى هذا الفصل متوهمًا ومتعسفًا بحكم مفهوم الدولة الحديثة، التي تعتبر الأمن شأنًا سياسيًا وركيزة في تعريف الدولة، وهو الأمر الرائج في ظل تصاعد خطاب الإرهاب ومواجهته في نبرة الدولة الحديثة.

يعزى إلى الجيش الانكشاري التركي البدايات الجنينية الأولى للجيوش النظامية التي تميزت بروابط تقوم على الولاء المطلق للسلطان، ليس كونه فئة اجتماعية تابعة له، لكن بموجب نظام طاعة يتلاءم مع طبيعة الجيش الحديث، وبكون المنضمين له تعرضوا لعمليات تثقيف على هذا الولاء، وساعد في ذلك كون معظمهم أسرى وصبية ومخطوفين.

ارتبطت الجيوش العربية بصلة مباشرة مع الجيش التركي وخرجت تنظيماته من رحم هذه التجربة، فضلًا عن مسارها الذي تحكم بشكل وبنية الجيوش العربية، لكن تمايزت عنها الأخيرة كونها تأسست في ظل وجود الاستعمار والانتداب على المجتمعات العربية، وإن كان يستثنى من ذلك الجيش العراقي والجيش الجزائري، فقد استقل العراق مبكرًا، أما الجيش الجزائري فقد ظل حتى حكم الشاذلي بن جديد استمرارًا لجيش التحرير.

ومع دخول المؤسسات التعليمية، التي كانت مرتبطة بالجيش، مثل إنشاء أولى المدارس والكليات لغايات عسكرية، تبلورت التنظيمات السياسية والسرية داخل الجيش، ما ساهم بتعزيز الطموح السياسي، على غرار ما حدث في مصر وقيام تنظيم الضباط الأحرار.

يلفت بشارة إلى أن الجيش وسيلة للترقي الاجتماعي والاقتصادي، في مجتمعات فلاحية؛ إذ "أصبحت العسكرية في الدول النامية والمستقلة حديثًا، المسار الرئيسي لتقدّم أبناء الفلاحين وأصحاب المهن صعودًا على السلم الاجتماعي، وذلك بعد أن كانت البنى التقليدية وثقافتها تحدد مسار حياتهم وتقرر مصائرهم سلفًا، وتمنعهم من تغيير مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية".

ويعرج على ما وصفه بـ"أخوية رفاق السلاح الرجولية"، وهي تسمية تتطابق والحالة الشعبوية العربية وثقافتها، أو بالأحرى وعيها الريفي الذي رافق انتماءها للجيوش الحديثة من دون أن تخلع أرديتها القديمة وتتخلى عن مشاعرها التقليدية وتصفية ميراثها الرث، وهو ما يمكن اختباره مع ظاهرة عبد الحكيم عامر، وصراعه المضمر والخبيء أحيانًا والمعلن في أحيان أخرى، مع عبد الناصر، والولاءات التي تكونت داخل عدة أسلحة في الجيش لعامر ووقوفها معه ضد عبد الناصر عندما بدأ الأخير في التصعيد ضده بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، ووضعه قيد الإقامة الجبرية في ظل شبهات ما زالت تحوم حول لغز موته، وما إذا كان مجرد انتحار أم تصفية قادها النظام ضده خشية الانقلاب على ناصر.

وطرح المؤلف هذه العلاقة التي تقوم على الولاء بين الأفراد وبعضهم داخل الجيش في صيغة وجود رابطة قد تنشأ بين ضباط الوحدات القتالية، وخريجي الكليات العسكرية من الدفعة ذاتها؛ إذ تتحول إلى "نوع من الولاء الشخصي للجماعة أو رفاق السلاح"، ويسهّل ذلك تجنيدهم في التخطيط لتحرك أو انقلاب.

يعرّج صاحب "في الثورة والقابلية للثورة"، إلى ما يسميه فشل بوتقة الصهر العسكرية وبروز الولاءات ما قبل الوطنية في الجيش- الحالة السورية، ويصف مراحل تطييف الجيش وعسكرة الحالة الطائفية في سورية، والتي اتّسمت ببروز الوحدات الإثنية والطائفية، في داخل الجيش، والتي انقسم التنظيم العسكري العقائدي فيها إلى كتلتين كبيرتين، إحداهما تحريرية، نسبة إلى حركة التحرير العربي التي أسّسها أديب الشيشكلي، والأخرى اشتراكية، وقد كان أكرم الحوراني أبرز الفاعلين فيها، إضافة إلى مجموعة من الضباط اليساريين المتأثرين بالحزب الشيوعي السوري.

يفكك عزمي بشارة الشريحة الاجتماعية التي ساهمت في تكون حزب البعث السوري ويبين قواعدها التي تنتمي في جذورها إلى الريف، وهي نفسها الكتلة التي استند إليها البعث في انقلابه عام 1963، وبالنسبة إلى بشارة فإن الدول التي لم تتحدّث إلى درجة استيعاب هجرات الريفيين، وفي ظل سيطرة حزب أيديولوجي وعسكرتاري، يصبح الأمر يعكس خطورة شديدة، خصوصًا عندما تتقاطع الأزمة الطبقية مع التأزم الطائفي في الحالة السورية تحديدًا بصور أقل حدة.

وعلى الرغم من نسج الأسد علاقات أكثر مع سكان المدينة وتجارها، إلا أنه لم ينقطع عن سياسات البعث في استجلاب الريفيين، وفرض سيطرتهم على المؤسسات الإدارية، ما جعل تجار المدن الداخلية يشعرون بخصومة بسبب اضطرارهم للتعامل مع بيروقراطية يسيطر عليها فلاحون.

هنا، يقول بشارة: "كان لانتماء ضباط اللجنة العسكرية إلى طبقة فلاحية زراعية (ريفية) آثار غير محدودة في المجتمع السوري؛ إذ بدأت طبقة الفلاحين تتوسع ويزداد تأثيرها وترتقي اقتصاديًا واجتماعيًا بخلاف العهود السابقة، لتوازن طبقة سكان المدن، وتتحكم بها في مراحل لاحقة. وبالطبع اتبعت اللجنة العسكرية سياسات اقتصادية واجتماعية لمصلحة الريف".

ويعتبر في ذلك السياق صعود ظاهرتي "الذئاب الشابة" ونظام "التشبيح والتشليح" في سورية، باعتبارهما أبناء الأغنياء القدامى والجدد والنخبة الأمنية والسياسية، فيقول إن "هذه الشريحة الاجتماعية - الاقتصادية المتداخلة بالأمن والسياسة والمستفيدة من النظام، والمستفيدين مباشرةً منها، هي نواة النظام الصلبة التي تشمل الأمن والأسرة الحاكمة".

يقسّم عزمي بشارة تحولات الجيش المصري وعلاقاتها بالسياسة إلى ثلاث مراحل، تبدأ بمرحلة "هيمنة العسكر وتداخل سلطات الجيش والرئيس"، وهي مرحلة فرضت الولاءات العسكرية فيها على التعيينات بشكل كامل، وهذا لم يعنِ أن تكون المناصب السياسية، فقط لعسكريين، ولكن من خلال إعطاء أولوية للولاءات على الاستحقاق والأهلية.

وقد كانت عودة الجيش إلى الثكنات مجرد تحرك تكتيكي من عبد الناصر يستهدف به إبعادا مؤقّتا للجيش عن السياسة وذلك خوفًا من الانقلاب ضده في ظل مطالبات حثيثة ومتكررة تطالبه بالعودة إلى الثكنات من أجهزة داخل الجيش، مثل سلاحي الفرسان والمدرعات، لكنها لم تكن تهدف إلى فصل حقيقي بين السياسة والجيش، إنما ظل دور الجيش في دعم واستقرار النظام وتوفير شرعية له إذ إن "الجيش كان خاضعًا للحكام المدنيين من أصول عسكرية"، بحسب المؤلف.

وفي المرحلة الساداتية بكل تحولاتها الاجتماعية والإقليمية والتسوية السياسية بالصلح مع إسرائيل والانفتاح الاقتصادي الذي تزامن مع التقارب مع الولايات المتحدة والتبعية لصندوق النقد الدولي والخضوع لشروطه، كانت ثمة حاجة إلى قوى أمنية لها طبيعة ودور مختلفان وماهية تتصل بالواقع السياسي والاجتماعي الجديد وبمقدورها التعامل مع معطياته الجديدة؛ فتطورت القوى الأمنية التي خصصت للتعامل مع "الشغب" الشعبي بخلاف الجيش الذي خرج لقمع الاحتجاجات الشعبية وضبط الأمن بعد إخفاق قوات الشرطة المدنية مثلما حدث في مظاهرات 18 و19 يناير التي جاءت كرد فعل على رفع الدعم عن السلع والمواد الغذائية الأساسية.

تحولت دولة العسكر إلى دولة الأمن منذ صعود السادات للحكم في محاولة لتقويض الدور السياسي للجيش باعتباره موضوعاً للانتماء القومي في عهد عبد الناصر، وتعمّق هذا الوضع في عهد مبارك؛ حيث دفعت التطورات تجاه إقصاء الجيش عن المجال السياسي، حتى جاء استدعاؤه لقمع تمرد الأمن المركزي عام 1986.

ورافقه نقاشات حول تعديل وضع الجيش والمطالبة بخفض الميزانية العسكرية وتحديد دوره الاقتصادي، إلى أن بلغ الأمر بالرئيس المخلوع مبارك حد الادعاء أن تقليص عدد أفراد الجيش ودوره "يعني أن تبقى إسرائيل القوة الوحيدة المتفوقة في الإقليم".

في عهد مبارك، جرت تسوية كبرى صار بموجبها وزير الدفاع الرجل القوي داخل الجيش وعدم تدخله المباشر في الحكم لكنه كان يتمتع (أي الجيش) بالحكم الذاتي، وحظي أفراده المنتمون إلى المؤسسة العسكرية على امتيازات الجيش واقتصاده وتعيين ضباطه المتقاعدين في مناصب رسمية، في حين أفرغت الساحة للاعبَين الرئيسيَين مع مبارك في إدارة البلاد سياسيًا؛ وهما الاستخبارات والأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية.

يقول بشارة: "ثمة مبرّر آخر لعدم حاجة الجيش إلى التدخل في انقلاب إلا في الحالات القصوى، وهو اعتبار الجيش صاحب السلطة الحقيقية في البلد من دون أن يحكم فعلًا، كون الجيش هو السلطة غير الحاكمة، أو التي لا تحكم مباشرة، وهو صاحب السلطة الحقيقية التي تقف خلف واجهة الحكومة المدنية".

يبقى ملمح مهمّ يشير إليه عزمي بشارة في كتابه، وهو أن النخبة الثقافية في مصر تعاملت مع الجيش باعتباره مخلّصًا، مع أنها المسؤولة عن "خلاص الشعب". وهو ما استمر في حالة مصر حتى "ثورة يناير" وإسدائهم خدمة تقوم على التسويق والتبرير لصعود الثورة المضادة وإجهاض التحول الديمقراطي وتصفية الثورة ومكوناتها في الثالث من يوليو/تموز 2013 وصعود الجيش للاستيلاء على السلطة بكل طغيانه وجبروته.

المساهمون