يوسف زيدان.. ديناصور من المدن القديمة

يوسف زيدان.. ديناصور من المدن القديمة

12 مايو 2017
(العلّامة زيدان بين مريديه)
+ الخط -

ثمة بنية تلفيقية تتحكم بشروطها وأغراضها في فكر ومقولات يوسف زيدان، الوكيل الحصري للثقافة والمعرفة، الذي يتنقل بخفة بين عدة مناقب فلسفية وسياسية وأدبية وتاريخية، يملك مفاتيحها ويحتكر نصوصها ويتحدث باسمها وحده، والتي تعمد إلى الإثارة والتشويش عبر قدرة فائقة على استدعاء حالة من الصخب والجدل حوله، من دون تبني منهج مفهوم ومتماسك لطرح وجهات نظره، يدّعي من خلالها بناء معرفة جديدة وإنتاج وعي نقدي. لكن الأمر اللافت في ما يخصّ أطروحات زيدان هي تكرارها لنفسها في صورة مبتذلة؛ القاسم المشترك بينها، يقوم على صياغة أفكاره داخل عناوين صحافية، ليس فيها متن يمكن التعاطي معه ومناقشته وتفكيك عناصره.

مجرد حالة من التداعي والشبق تجاه حالتي "الترافيك" و"التريند"، اللتين يتم تكريس ذاته داخلهما، يستفيد من عناصرهما ويوظفهما حتى يظل متوهجًا في هذا "الأفق المتوج بالذهب الأزرق اللانهائي"، بحسب عباراته المدونة في إحدى نشاطاته عبر فيسبوك، والتي يحرص فيها على ممارسة دوره في تقمص دور المثقف والفيلسوف صاحب الحكمة البليغة التي تبدو كأثر الفراشة، يعمد إلى تراكيب لغوية ذات جرس موسيقي واضح.

ففي هذه الحالة من التعالي باستخدامه لغة سحرية قديمة فقدت فعاليتها التاريخية، وبها هذا الكمّ المفرط في بلاغتها الباهتة والركيكة؛ يتحرر من الرطانة والغنائية والتخلص من الثقافة الشفاهية إلى لغة دالة ذات مضمون واع مختصر.

لكنه يقع في التمجيد الذي يختلط فيه الذاتي بالموضوعي ويكشف عن حالة ضعف تتخفى وراء هذه العناصر التي يحاول صاحبها "النوم مثل المدن القديمة"، فهو تشبيه يقع تحت وطأته وتأثيره صاحب "عزازيل" (؟) حيث يبدو أمام ذاته المتضخمة كالأثر الكبير الذي يتماهى معه، لكنه، من غير قدرة على شيء.

وقائع الحائز على "البوكر" في الرواية العربية عديدة ومثيرة للسخرية لا تنتهي عند ما قاله عن صلاح الدين الأيوبي، بحيث يتناقض مع المخيلة الشعبوية لغالبية الناس، ويصطدم بها، مثل ما سبقها في إنكار حدوث "المعراج" بالنبي محمد، وواقعة السيجارة وإصراره على التدخين داخل القاعة وسط الحاضرين من الجمهور والمتحدثين، في ندوة في المغرب، ومقاطعة أحد المتحدثين بها ومطالبة الجمهور بالإنصات له.

في مثل هذه الوقائع وغيرها، يؤدي زيدان دورًا نفعيًا. ففي الوقت الذي يرفع فيه شعارًا بضرورة عدم الخصومة بين المثقف والسلطة، فإنه يسعى إلى تكريس هيمنة السلطة ومنحها المشروعية وتعزيز أدواتها الإجرائية، لتجاوز رهاناتها الاجتماعية والسياسية، في سبيل تدشين سيادتها وتبني الحقيقة التي تخدمها.

بينما يعزف عن بناء وعي جماهيري (إن افترضنا أنّه قادر على ذلك) يكون بمثابة العمود الفقري الذي تنتصب عليه الأفكار الجديدة والمغايرة للسائد في بنية جديدة تتجاوز كيان السلطة الهش والمشوّه، وتتحمل إعادة فهم تاريخها وتفكيك المقدس والمتوّهم، داخل نسق متكامل يمكن أن يكون تحريضيًا بكل نزعاته النقدية وأدواته المنهجية، وليس في صورته الفوضوية والعشوائية التي يؤديها باحترافية تؤدي لمزيد من الجهل والتعصب وتكريس فقه السلطة وعدم المقدرة على مقاومة استبدادها.

لكنه يجهض كل محاولات فض ذلك الاشتباك الماثل بين المثقف ورجل السلطة والحبل السّري الموصول بينهما، ويدور في فلكه بشكل طوعي وينجذب لفضائه المقيد، فيخضع لشروطه وإغراءاته، وتهميش وتصفية كل فكر لا يحقق لها الاستقرار.

تتبدى تلك الانحيازات التي تظهر بوضوح في خدمته للسلطة وعدم الخروج عليها من كاتب ظل مقربًا من أنظمة الحكم في مصر من مبارك إلى عبد الفتاح السيسي، عندما شكك في عروبة القدس وتصريحه بأن "إسرائيل عدو عاقل"، وينبغي تصفية الصراع الموجود معها، فضلًا عن اجتماعه مع السيسي وتقديمه مقترحًا بضرورة توحيد الجبهة مع إسرائيل وتَطبيع العلاقات معها، وإيجاد حل عاجل للمسألة الفلسطينية حتى لو كان على حساب التنازل عن الحق المقدس للمسلمين في القدس.

وذلك بعدما قدم تفسيرًا جديدًا يقول فيه إن القدس هي مدينة تقع داخل الأراضي السعودية بالقرب من الطائف. وفي ظل تبدل موقف الإدارة المصرية واستراتيجيتها من المسألة الفلسطينية، يتجلى دور مثقف يستفيد من مكانته ككاتب يحتل قوائم "الأكثر مبيعًا" توظفه السلطة في أهدافها ومصالحها وانحيازاتها حتى لو بدت بأدلة تاريخية ضعيفة وساذجة.

وفي ظل مغالطات وأكاذيب لا يكف عن إثارتها فيلسوف الإسكندرية تتجاوز التاريخي لما هو راهن وترويج وتبني روايات الخصوم التاريخيين، فهو يختصر الثورة في نسختها المصرية والحراك الشعبي ضد نظام المخلوع مبارك بوصفه "موضة" وتقليد للثورة التونسية.

كما قام زيدان الذي يتبني مقولة إن "الإسرائيليين عرب يقتلون عربًا، فما شأننا نحن؟" بتبرئة الصهاينة من مذبحة صبرا وشتيلا التي ارتُكبت ضد الفلسطينيين في بيروت، وصرح في ندوة أن ما يسمى بعصابات "الهغاناه" كانت مجموعة من الشباب الإسرائيلي يحمي قرى يهودية، مثلما خرج شباب مصر فترة ثورة 25 كانون الثاني/يناير وكوّنوا لجانًا شعبية لحماية البيوت، ولم يكن في مذبحتي صبرا وشاتيلا يهودي واحد يحمل "مطوة".

تحيلنا تلك المغالطات المضللة، بحسب زيدان، الذي يوظف "المعرفة" في حماية وتغليف حقائق زائفة يعمد إلى ترويجها وخدمة مصالح سلطوية وأنظمة حاكمة، واستبداله صفة "المستوطنات"، التي بناها الإسرائيليون بـ"قرى يهودية" آمنة، دافعت عنها العصابات الإسرائيلية المسماة بـ "الهغاناه"، ضد الفلسطينيين المهاجمين لها، إلى تأكيده المفضوح والعلني على وجود حقوق شرعية وتاريخية في وطنهم "إسرائيل"، ونزع أي حقوق للفلسطينيين "الإرهابيين"، بينما يغيب بالضرورة اسم "فلسطين". وفي مطابقته بين عناصر القوة الاستيطانية بأنهم مثل شباب ميدان التحرير الثوري تصبح في إسقاطه السخيف نزوعاً لوصف الفلسطينيين بالإرهاب.

أخيرًا، يبقى مشهد له دلالة أسجله هنا، إذ لم يصادف في كل مرات حضوري للندوات والفعاليات الثقافية على تنوعها أن رأيت كاتبا يحمل مسدّسًا يحتضنه في جانب من ملابسه خلال توقيعه لكتاب واستقباله القراء و"المريدين". وبالرغم من تهديدات تلاحقه إثر آرائه المثيرة حول التراث والدين، لكنها لا تمنحه وجاهة في هذا السلوك الذي يتناقض مع تاريخ مثقفين تعرضوا لما هو أكثر قسوة من ذلك وفتاوى تكفير وأحكام قضائية ضدهم، مثل نصر حامد أبو زيد، دون أن يتبادر إلى ذهنهم مثل هذا الموقف الغريب.

 

المساهمون