تونس قبل الثورة: معتقلون في "حفلة" تعذيب

تونس قبل الثورة: معتقلون في "حفلة" تعذيب

23 ديسمبر 2016
(معتقل سري بالناظور، الصورة/ فرانس برس)
+ الخط -

انتهت جلستا الاستماع العلنيّتان لشهر ديسمبر/ كانون الأوّل الجاري لهيئة الحقيقة والكرامة منذ أيّام، في إطار الجلسات المبرمجة لمدّة سنة، والتي تستعرض حالات تعذيب امتزجت بطعم المعاناة والمآسي الإنسانية التي مارسها رئيسا تونس السابقان بورقيبة وبن علي ضد معارضيهما، حيث إن شهادة المُعذّبين في السجون التونسية في وقت سابق، بلوَرتْ أسلوب النظامين الوحشيّ في قمع الحريّات المكفولةِ ظاهرًا والمهضومة واقِعًا.


عقوبات قاسية
نجوى الرزقي (43 سنة)، مناضلة طلّابيّة وسجينة سياسية سابقة بسبب نشاطها المعارض للنظام، كانت من بين الشاهدات على زمن الاستبداد أيّام دراستها بالجامعة، تروي قصّة اعتقالها وسجنها بسبب نشاطها في الاتحاد العام لطلبة تونس، مستطردة أنها دخلت في إضراب طلابي عن الدراسة سنة 1994، انتهى بالاعتصام في ساحة الجامعة من أجل المطالبة بحقهم في الرسوب أكثر من سنتين في مرحلة دراسية واحدة، وتم استدعاؤهم في تلك السنة من طرف ليلى الرمّاح، عميدة الكلية، للعدول عن الاعتصام، وعندما رفضوا طلبها أمرت الأمن الجامعي بالتدخّل.

وأردفت الرزقي قائلة: "كنت من بين الموقوفين حينها، ولم يشدّ انتباهي غير الشرطي الذي وجدته في نقطة الاعتقال، وقد كان في الأصل طالبًا بيننا، وتأكّدت عندها بأنّه كان جاسوسًا يعمل لصالح النّظام. تعرّضتُ لكلّ أنواع الاعتداءات الجسدية والمعنوية، وأرغمنا مع بقية الموقوفين على التوقيع على محاضر بحث بالقوّة، ضُربنا من البوليس بشتى أدواتهم، بالعصيّ والسلاسل على رؤوسنا وظهورنا وأرجُلنا، حتى اعتقدنا أنهم يريدون قتلنا ضربًا".

لم تنته قضية الطلبة الموقوفين بالاعتقال والاعتداء بالضرب، بل تمت متابعتهم قضائيًا وإنزال عقوبات قاسية ضدّهم، حيث تؤكّد المتحدثة أن قضيّتهم صنّفت في الجنايات، واستمر التوقيف لمدة شهرين على ذمّة التحقيق دون محاكمة، وصدر في حقها حكم يقضي بسجنها لمدّة عامين وأربعة أشهر، مضيفة أن بقية زملائها تفاوتت مدّة سجنهم من طالب لآخر، قبل أن تعلقّ بالقول "كلّ هذا لأننا عارضنا منهج جامعتنا التعليمي وطالبنا بإصلاحه، لن أذكر أي اسم من أسماء هؤلاء الجلادين اليوم، لأنّ لهم أولادًا اليوم، وأتمنّى ألّا يصبحوا مثل آبائهم".

شهادة نجوى الرّزقي تركت أثرًا جليّا على وجوه الحاضرين، غير أن كلماتها بعد مرور كلّ هذه السنوات، كانت تنبِئُ بالصّفح عن جلّاديها.


ممثّلٌ في دور حقيقي
كان حضور الممثّل التونسي الشهير جمال ساسي، في جلسة استماع ضحايا التعذيب في تونس، مفاجئًا للجميع، إذ إنّ قلّةً قليلة من المتابعين للجلسة كانوا يعلمون أنّه شقيق شهيد "أحداث الخبز" المعروف فاضل ساسي، أحد أبرز مؤسّسي المدرسة الثانويّة بتونس والقيادي بحزب الوطنيين الديمقراطيين.

ابتدأ جمال كلماته وهو يروي مأساة أخيه بمقولة لغادة السمّان: "إنّ الصورة هي اغتيال للحظة هاربة"، ثمّ أنشأ يقول: "على الشعب التونسي أن يعرف ماذا فعل نظام الزعيم بورقيبة في التونسيين، فأبي كان من المجموعة المعزولة عن عملها بسبب انتماءاته اليساريّة، وكانت أختي سعيدة ساسي هي العائل الوحيد لنا بحكم عملها في التدريس. لم يكفِ نظام بورقيبة حرماننا من العيش الهنيّ، فقرّر اغتيال أخي في يناير/ كانون الثاني عام 1984".

يحكي جمال فصول عملية اغتيال أخيه فاضل، وخروجه في انتفاضة 1984 ضدّ رفع الدعم عن المواد الأساسية ذلك الوقت والتي عرفت بـ"انتفاضة الخبز"، موضّحًا أن أخاه وكان يقود مجموعة من زملائه في التدريس بمعيّة تلاميذ معهده، استُهدِفَ برصاصة حيّة من شرطة نظام بورقيبة استقرّت في قلبه، معتبرًا أن ما حدث كان عملية قنص استهدفته في المظاهرة، ويستشهد المتحدّث: "حتى تقرير الطبّ الشرعي لم يستطع والدي الحصول عليه في تلك الظروف، حتى يقوم النظام بحماية نفسه، ولكنّ والدي تمكّن بعدها من الحصول على الجثة أخيرًا، ففي مثل هذه الحالات كانت تُنشَأ مقابر جماعية للمتظاهرين الذين تمّت تصفيتهم، ولا يدري أهالي القتلى أين دفنت جثث ذويهم".

ويعلّق ساسي أنه بعد فقده لأخيه، واغتيال عدد من المتظاهرين وإيداع عدد منهم السجن، خرج بورقيبة ليقول لهم: "نرجعو وين كنّا" أي (نعود إلى حيث كنا)، ولكن لا شيء يرجِعُ بعد القتل للأسف، على حدّ تعبيره.


مطاردة المحجّبات
في آخر جلسَةٍ للاستماع في هذا الشهر، تدخّلت حميدة العجنقي، التي كانت تلميذة في معهد ثانويّ من معاهد العهد النوفمبري، لتروي بدورها تفاصيل قصتها التي تعود إلى سنة 1991، حيث تقول إن بن علي قاد "حملة مسعورة" في القضاء على مظاهر التديّن في تونس، قبل أن تبدأ "محرقته" ضدّ الإسلاميين واستئصالهم من المشهد الوطني التونسي، فكانت حميدة وقتها ترتدي الحجاب، ولأنّ الحجاب مُنِعَ من المعاهد آنذاك، فإنّ حميدة وجمع من زميلاتها مُنِعْنَ من دخول المعهد، تستطرد حميدة بالقول: "استدعت مديرة معهد منطقة العمران الأعلى بمحافظة تونس في ذلك الوقت، والدي كي تقنعه بضرورة نزعي لحجابي والا فإنني ممنوعة من الدراسة، وصَفَعَني والدي حينها أمام المديرة لأنني أصرّيتُ على الحجاب، ووصل به الأمر إلى تخييري بين الدراسة والمكوث في المنزل، واخترت المكوث في المنزل قبل أن أعود إلى الدراسة في مركز للتكوين في الإعلاميّة".

تضيف المتحدثة أن خطيبها (زوجها حاليًا) في ذلك الوقت، كان منتميًا إلى حركة لها توجّه إسلامي (حركة النهضة اليوم) عندما انطلقت حملة الاعتقالات الشهيرة ضد الإسلاميين، وبعد أن قرّر خطيبها الاختفاء عن أنظار الشرطة وجدت نفسها مسجونة مكانه في أحد مخافر وزارة الداخلية على ذمة تحقيق "وحشي" لمعرفة مكانه من خلالها، تضيف حميدة: "أنا التي كنت أخجل من ارتياد الحمّامات العموميّة بسبب خجلي أمام النساء، وجدت نفسي عاريَةً أمام جمع من المحقّقين وأتعرّض إلى ضرب مبرح بشتى الوسائل؛ بالركل واللكم والصفع، إلى أن تعرّضت إلى محاولة اغتصاب من طرف أحد رجال الشرطة وكان في حالة سكر، وامتدت يده إلى أماكن حساسة من جسدي".

نجت حميدة من محاولات الاعتداءات عليها داخل المخفر، بعدما ألقي القبض على خطيبها وأطلق سراحه في ما بعد، ولكن معاناتها استمرت وتأزّمت حالتها النفسية بعد حادثة الاعتقال، التي تسببت لها في اضطرابات في النوم، وإصابتها بنوبات هستيرية، ورؤيتها لكوابيس.

المساهمون