الإنترنت بلا إعلانات.. أسلحة ديمقراطية

الإنترنت بلا إعلانات.. أسلحة ديمقراطية

18 فبراير 2017
( لي وودجيت)
+ الخط -

توقّفت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية عن إصدار نسخها الورقية العام الماضي، معلنةً تركيزها على المستقبل الرقمي، فيما بدا إشارةً إلى تغييراتٍ ستصيب الصحافة ابتداءً بالشكل ووصولًا إلى المضمون الجديد الذي سيتطلبه هذا الشكل سريع التجدّد والتغير.

بدت الحركة حينها منطقيةً، لتفادي الخسائر المادية التي بدأت تصيب كبرى الصحف المطبوعة، واستجابةً لمتطلّبات عصرٍ جديد تبدّلت فيه عادات القراءة وحلّت محرّكات البحث فيه محلّ الوسيط.

وافتُرِض حينها أن الأمور في مسار تغيرٍ ثابت، يدعمه التطوّر المستمر في مجالي البرمجة ووسائل الاتصال كالهواتف والأجهزة اللوحية.

تهديدات برامج الحجب
لكن القراءة للوضع الراهن من هذه الزاوية وحدها ليست كافية، فضمن هذه الموجة الآخذة في التعاظم ظهر في الآونة الأخيرة تفصيلٌ صغير كان وما زال يهدّد بنسفها اقتصاديًا، تعتبره وسائل الإعلام الإلكتروني اليوم من أبرز تحدياتها.

الحديث هنا يدور حول برامج حجب الإعلانات، وعلى رأسها Adblock، والذي لا يعرف مساره البياني إلا ارتفاعًا منذ فترةٍ ليست بقصيرة، ويهدّد، ببساطته، تصفح الإنترنت بالشكل "المجاني" اصطلاحًا، والصحافة الإلكترونية خصيصًا.

إن صورة الإنترنت في الأذهان أقرب إلى فضاء لا محدود ومجاني. والواقع أن الصفة الأخيرة ليست دقيقةً تمامًا، وإن كانت التكلفة النقدية غائبة، إلا أن "الدفع" إن سميّناه هكذا يتمّ لقاء المعلومات الشخصية وتاريخ التصفّح الذي تصل على أساسه الإعلانات إلى المستخدم، عبر المواقع الإلكترونية التي تغطّي تكاليف عملها من ريع الإعلانات الذي تهدّده برامج الحجب هذه.


أصل المشكلة
لا يُمكن حصر سببٍ واحد للمشكلة هذه، فمن جهة تتحمّل بعض المواقع المسؤولية لاختيارها إعلاناتٍ مزعجة، ككونها متحرّكةً تعمل دون إذن المستخدم، ما يأتي على حساب سهولة استخدام الموقع نفسه وعلى سرعة تحميل الصفحة التي ستتوزّع على الإعلانات.

ومن جهةٍ أخرى فإن جوًا سائدًا من انعدام الثقة بالعالم الإلكتروني هذا يتحمّل جزءًا من المسؤولية. فالحصول على المعلومات الشخصية "لتفصيل" الإعلانات الملائمة لها خطوةٌ لم ترح الكثيرين الذين اعتبروا الأمر انتهاكًا للخصوصية، بينما تساءل بعض آخر عن الحد الذي سيقف عنده مزوّدو الإعلانات في سعيهم لصناعة الإعلان الأقرب إلى مستخدمٍ باتوا يخبرونه جيدًا.

يمكن أيضًا أن نرجع بعض الأسباب، الأقل أهمية، إلى المستخدمين أنفسهم الذين اعتادوا على الاستفادة من كل شيء دون مقابلٍ، واليوم باتوا يعرفونه ويرفضون تقديمه حتى ضمن حدودٍ قد لا تضرّ بأمن معلوماتهم، ويساعدهم على ذلك تطبيقٌ سهل الاستخدام، مجاني، وصغير الحجم.

إلى أين يقودنا هذا؟ إلى موقع Adblock على سبيل المثال، للحصول على التطبيق كامتدادٍ لمحرّك البحث غوغل كروم، مرورًا بعدة خطوات لتنزيله ومن ثم تحميله. وقد يدّلنا سلوكٌ متعدّد المراحل كهذا على أن العملية باتت تتمّ عن إصرارٍ سابق ونقمة جماعية، يشعر بها أكثر من 200 مليون مستخدمٍ لهذه البرامج، مع توقعٍ بازدياد الأرقام.

بالنسبة لوسائل الإعلام
لمّا كان محتوى الإنترنت متعددًا ومتباينًا بشكلٍ يشبه تنوّع نشاطاتنا أو فعالياتنا في الواقع، فإن طرق عمل وتمويل ووظيفة أنواع المحتوى هذه تتباين أيضًا. وما يهمّ بالدرجة الأولى في معرض الحديث عن برامج الحجب هي مواقع الإعلام الإلكتروني التي تفاوت ردّ فعلها تجاه التحدّي المقبل. فكما أسلفنا، بدأ الرهان منذ عدّة سنوات على الإعلام الإلكتروني، وازداد اهتمام معظم الوسائل به، بينما انطلقت أخرى وفقًا لمعادلاته ودورته الإخبارية.

ويعني هذا الرهان تركيزًا في الميزانية والكوادر على الشق الإلكتروني واعتمادًا عليه إذن كمصدر جنيٍ أساسيٍ للأرباح، والذي لا يتمّ دون الإعلانات بشكلٍ أساسيٍ. إن الطبيعة الربحية لوسائل الإعلام، بشكلٍ عام، واستناد الربح بشكلٍ رئيس إلى الإعلانات، مع تكاليف العمل والكوادر في بيئة عمل 24 ساعة يجعل المواقع الإعلامية الخاسر الأكبر من حركة التمرّد هذه.

ولا تنعكس هذه الخسارة بشكلٍ اقتصاديٍ وحسب، بل يُمكن أن تؤثّر على المضمون في حدّ ذاته، وتوجّهه الذي تشكّل عبر فترةٍ طويلةٍ من الزمن، واستقلاليته – رغم جدلية المصطلح - فعلى الرغم من أن الحديث عن مفاهيم كالاستقلالية أو الموضوعية في الإعلام نسبيٌ أكثر منه مطلقاً، إلا أنها على نسبيتها هذه تجعلها في خطرٍ أيضًا خصوصًا على المواقع الناشئة التي لا تعتمد على تمويل مؤسساتٍ أو جهاتٍ كبيرة أو سياسية، ويقدّم بعضها محتوىً أقرب للمفاهيم السابقة، ويساهم في تشكيل هوية الإنترنت، كامتدادٍ يتّسع للجميع، أقل قابلية للاحتكار والهيمنة عليه.


رحلة البحث عن حل
أثارت المشكلة هذه انتباه عددٍ كبير من المواقع الإلكترونية والشركات الكبرى، بل وبعض مطوري برامج الحجب أنفسهم، وبدأوا عبر طرقٍ عدة محاولة الخروج بحلٍ لها. فعمدت بعض المواقع إلى الطلب من مستخدميها إيقاف البرامج هذه عند زيارتها، أو دعم المواقع بطريقةٍ أخرى – عبر التبرّع مثلًا - كما تفعل الغارديان عند تصفح موقعها بحاجب إعلانات، بينما قامت أخرى بمنع عرض محتواها إلى أن ينصاع المستخدم. وترافق ذلك مع نشاطٍ قانوني لمنع هذه البرامج لم يبلور شيئًا حتى اللحظة، وحظرٍ من قبل شركة غوغل لـ Adblock على متجر تطبيقاتها الخاص بالهواتف الذكية.

أما عند القائمين على هذه البرامج كـ Adblock، فإن الخطوات الأخيرة كانت باتجاه نظام فلترة "الإعلانات المقبولة"، والتي لا تنتهك الخصوصية أو تعرقل التصفّح، وتشجع المعلنين على الابتكار وصنع إعلاناتٍ أفضل، بحيث تغدو هذه البرامج رقيبًا لجودة الإعلانات.

تثير البرامج هذه جدلًا واسعًا، ويعتبر استعمالها أحيانًا عملًا غير أخلاقي، بينما ينظر إليها من جانبٍ آخر كسلاحٍ ديمقراطي ووسيلةٍ ليحافظ المستخدم أو المستهلك على وقته وأحيانًا نقوده التي تُهدر بسبب توظيفٍ عشوائي ومبالغٍ فيه للإعلانات. وفي هذه المعادلة فإن المواقع الإلكترونية في الطرف الخاسر، ما يجب أن يدفعها للاستجابة لضغطٍ عملاق، بحجم ملايين المستخدمين، المترجم عبر برامج لا تتعدّى مساحتها بضعة ميغا بايت، وتضع خططًا إعلانية جديدة تأخذ في عين الحسبان المستخدم الذي أصبح يملك خيارات أخرى.

المساهمون