أُغمض عينيَّ لأختفي

أُغمض عينيَّ لأختفي

09 ابريل 2017
(إختلاف لـ فيكي إيمبتاج)
+ الخط -

شعرت ببرودة فوهة البندقية عندما لامست عنقي، كانت برودتها لا تشبه برودة المعادن، بل هي أشبه ببرودة الموت، وكأنّ للموت طقوساً خاصة به، فعندما يحلّ في أي مكان يُجبر الأشياء الثابتة والمتحركّة على الإيحاء للتعبير عنه.

لم أحاول أن ألتفت إليه، فالاعتراض يكلّف رصاصة واحدة، والرصاص هنا عقابٌ معتادٌ لكل خائن أو معترضٍ أو سيئ حظ.

صوتٌ خشن يخاطبني صارخًا من بعيد: "إنه ارتكب الخيانة العظمى في حقّ الوطن .. اقتله"، وتتوالى أصوات الجوقات والأهازيج المغنّاة: "اقتل هذا العميل .... بدكن حرية؟ هي كرمال الحريّة". لم أكن صاحب القرار رغم أني حملت السلاح، ازداد الضغط عليّ وازدادت الأصوات المحرّضة ارتفاعًا. حاولت اللجوء إلى حيلة طفولية لأهرب من الضغط المتزايد، فأغمضت عيوني لأختفي.

عندما أطبقت جفوني، كانت عيناه لا تزالان ثابتتان تحدّقان في عيني، وكأنه رسام يريد أن يحفظ ملامح وجهي ليرسمه فيما بعد، إن ملامحه غريبة، لم ألمح يومًا رجلًا هادئًا ومستسلمًا لقدره إلى هذا الحدّ.

وأنا أغمض عينيّ أحسست أن انتفاضاته ورعشاته تعبر الأرض لتخترق حذائي العسكري المصفّح بسهولة، ولتعبر مسام جلدي، لتعيد الاضطراب إلى جسدي بعد أن كان قد تماهى مع البدلة العسكرية المموّهة منذ أن ارتديتها، قبل ثمانية أشهر.

ثمانية أشهر وأنا أحمل السلاح، وأفكّكه وأتدرّب على التصويب، وأركض وسط النار، وأركض بين القذائف، وأركض وراء الإرهابيين، وأنام في العراء، وأنام بين القذائف، وأستيقظ في العراء، وأستيقظ في المعارك، ولا أمارس سوى الحياة العسكرية المقتصرة على المعارك والتدريب، وأقشر البطاطا، وآكل البطاطا، ثمانية أشهر لم تستطع ممارستي الميكانيكية للحياة العسكرية أن تغير معتقداتي وفلسفتي في الحياة التي لم تتناغم يومًا مع الإيمان بعقوبة الإعدام، فالموت لا يُمكن أن يكون وسيلة، هو النهاية، ولا يمكن أن يكون عقابًا. كيف لي أن أحتل عرش الله وأقرّر بدلًا عنه مصائر أرواح البشر.

هل لدينا نحن البشر رغبة كامنة بسرقة دور الآلهة؟ هل نرغب بأن نكون بهذا الكم من القوّة والجبروت والقدرة على التحكّم بالعالم وتغيير الواقع وفق آرائنا؟ أم أننا ساديون بالفطرة، وما الإعدام إلا وسيلة لتبرير العنف الكامن فينا وتشريعه من خلال إعادة تسميته.

اخترق ازدحام أفكاري رنين هاتف أحد العساكر، عندما صدحت أغنية "منحبك" لتكسر إيقاع اللحظة، وشعر العسكري المشكك بانتمائي بذلك الكسر، فضغط فوهة بندقيته على عنقي بشدّة، وساد الصمت.

بثّت فوهة البندقية البرودة في جسدي وارتعشتُ، وكأنها شفتا رنا تضغطان على عنقي مجددًا، شفتاها الكرزيتان المنتفختان اللتان اعتادتا اختراق جسدي، وكأن الأعوام الثلاثة التي قضيناها معًا انبعثت من جديد، كيف لي أن أنسى شفاهك يا رنا؟

شفتا رنا هما الدليل الوحيد على تمرّدي على الحياة الروتينية، وهما تجربتي الوحيدة التي تثبت تشبّثي بالحياة ومقاومتي للموت. كم ساعدتني شفتاك على مقاومة فكرة الموت يا رنا. أستصعب الموت وأدين لشفتيك بالاعتذار. آه يا رنا لو عادت بنا الأيّام.

لو كان ذلك ممكنًا، لكنت كسرت صمت جلوسي على عرشي العاجي وأنا أتلذّذ بدموعك التي تغسل عار انكسار رجولتي بعد أن اختلقت قصّة العشق المفتعلة.

كانت رجولتي على المحكّ، هل أعترف بفشلي عن إرضاء رغبتك، وأترك فحولتي تنكسر أمامك، لقد أغراني التستّر وراء العاطفة، فوجود امرأة أخرى سيحفظ ماء رجولتي، لا أعرف كيف استطعت أن أكون قاسيًا وأن أتحدّث عن الفتاة المزعومة رغم دموعك، ولكن هل كنتِ ستصدقين يا رنا؟ هل ستصدّقين أن عجزي كان بسبب ورقة، ورقة تأجيل الجيش؟ هل كان حبك كافيًا لتبرئتي من الفشل في تلك الليلة؟ شعرتُ حينها أنه من الأجدى إن تهشّمت علاقتنا أن أخرج بأقسى صورة، ولكّنني اليوم أرغب بأن أقول الحقيقة، فلا خوف في العدم، غدًا سينسى الجميع إلا أنا.

أنسلخ عن جسدي في محاولة للنجاة، وكأنني في أحد أجزاء الحلم، أو كأن ما مضى كان كابوسًا، والواقع الوحيد هو شفتا رنا.

وضعت قبلتها الأولى على عنقي، شفتاها الباردتان بددتا برودة جسدي، وبتّ لا أشعر بالدم ينبض في عروقي. لن أخذلك اليوم يا رنا.

بدأت الحرارة تنتشر في جسدي، ونبضات قلبي ازدادت سرعتها، أرغب بالمزيد وشفتاها لا تتوقّفان عن العطاء، إني أشتعل بالرغبة، وأشعر بالقوّة، أشعر وكأنني قادر على المواصلة لساعات.

استطاعت رنا أن تثيرني بشدّة، انتصبت ووصلت للنشوة.

صوت إطلاق النار
فصل صوت الرصاصة بين الوعي واللاوعي، وانزاحت البندقية عن عنقي وفتحت عينيّ، فانخفض رأسي خجلًا وكأنني مارست العادة السرية علنًا.

سرق الموت واحدًا منا، وترك خلفه خيطًا من الدماء يسيل بالقرب من حذائي العسكري العالي، فتماهى جسدي أكثر مع بدلتي المموّهة، وجعل نشوتي مشوّهة. لن تعود نشوتي بيضاء بعد الآن، إنها رمادية كالرصاص.

المساهمون