مرضى نفسيون أم مستمتعون بالجنون؟

مرضى نفسيون أم مستمتعون بالجنون؟

18 يناير 2017
(شباب بايبال، تصوير: هينريك سورنس)
+ الخط -

 

معظمنا عانى الأرق، التوتّر، العصبية، فقد شهيّته أو تضاعفت بشكل مرضيٍ. معظمنا تعلّق بحبلٍ رفيع بين الأمل واليأس. وبعضنا يعترف بأنّه عانى مشاكل نفسيّة ويبحث عن علاج، والآخرون ينفون ذلك بإصرار ويعتبرونه وصمًا في حقهم، فهل نحن مرضى نفسيون؟ ومتى يكون المرض النّفسي عائقًا أمام الحياة الطبيعية، ومتى يكون محفزًا على البروز في لحظات تتطلّب شجاعة "المجانين؟".

إذا كنا مرضى، فهل المرض النّفسي أمرٌ سلبيٌ ويحتاج للعلاج، أم أنّه ميزة يجب أن نحتفظ بها؟ والذين يلجؤون للعلاج ضد أعراض المرض النّفسي، هل يحكمون على أنفسهم بالاعتماد الدّائم عليها، خاصّة حين يجرّبون راحة البال التي تصنعها الأدوية، والصّبر واللامبالاة أمام بؤس الحياة.

مجتمعات تفرّخ الجنون
الشّباب والنساء هم الأكثر تعرضًا للأمراض النفسية، كما تشير إلى ذلك مقالة علمية نُشرت في مجلة Brain and Behavior، فالأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 35 عامًا، أكثر عرضة للقلق، وبالتالي للأمراض النّفسية، وحسب المقالة أيضًا، فالنّساء أكثر عرضة للقلق بنسبة الضّعف، وهذا ناتج عن الاختلافات في كيمياء الدّماغ والتّقلبات الهرمونية بين الجنسين، أو قد تعود إلى الطرق المختلفة التي يلجأ إليها الرّجال والنساء في التعامل مع الضّغوط.

هذه الخلاصة تنطبق بصفة عامة على الشّباب والنّساء، لكن كيف سيكون وضع هاتين الفئتين في مجتمعات مثل المجتمعات العربية؟ وهل من العدل أن نطلب من الأفراد الذين يولدون في مجتمعات تعاني الانفصام، والكبت، والقمع النّفسي والاجتماعي والسّياسي، والحرمان العاطفي والاستقرار الاقتصادي، أن يكونوا أصحاء نفسيًا؟ كيف نناقش أمر الصّحة النّفسية في مجتمعات متناقضة مع نفسها؟ صحّة المرأة النفسية في مجتمعات ذكورية بامتياز، ينتقل فيها الرّجل بين رغبته في امرأة متحرّرة وجذابة، وحاجته إلى امرأة تطبخ مثل أمه، مع قابلية غير محدودة للطّاعة. امرأة تغريه كغربية، وتعتني به كشرقية.

وصحّة كليهما في مجتمعات سلطوية، تتفاقم فيها المشاكل الاقتصادية، التي تؤدّي إلى ضغط اجتماعي ويأس سياسي، في أوساط اجتماعية يحيطها الكثير من الغموض المرض النّفسي، بما أنّ معظم الناس يردُّون الإصابة بالأمراض النفسية إلى تأثير القوى الخفيّة مثل السّحر والجن والحسد، أو إلى قلّة الإيمان. وبما أن صحّة الفرد النّفسية لها علاقة بصحة المجتمع النّفسية، فلا غرابة في أن تكون نسب المرضى النّفسيين مرتفعة في هذه المجتمعات، لكن في غياب إحصاءات دقيقة، لا يمكننا الجزم، بما أنّ كثيرًا من حالات المرض النفسي لا تحصل على علاج.

مع ذلك تعتبر الخلفية الثّقافية والاجتماعية في بلدان العالم العربي، عاملًا مُؤزّمًا للمرض النّفسي، لكلّ الفئات العمرية وبلا شك للنّساء بنسبة أكبر، فمنظمة الصّحة العالمية أكّدت أن النّساء في الدول منخفضة الدّخل، أكثر تعرّضًا للأمراض النّفسية أثناء الحمل وبعد الولادة، لقلّة الرعاية النّفسية لهن، بالإضافة إلى ضُعف قدرتهن في هذه الفترة على تحمّل الضّغوط النّفسية التي يتعايشن معها في باقي مراحل حياتهن.

أبطالٌ مقنّعون

المرضى النّفسيون ليسوا دائمًا أشخاصًا منحرفين، ثم بالنّظر إلى ضغط الحياة المعاصرة فمن لا يحمل بعض الأعراض التي تعدّ مؤشرًا على وجود خلل نفسي أو عقلي؟ بالإضافة إلى أنّ دراسات كثيرة ذهبت إلى أن المرض النّفسي ليس شيئًا سيئًا دائمًا، إذا عرفنا كيف نتحكّم فيه ونستعمله لصالحنا. فتولّي دور القائد في الجماعات يستدعي بعض الصّفات التي تتطلب نوعًا من الخلل النفسي. والمرضى النّفسيون لديهم مجموعة واسعة من سمات الشّخصية القيادية: شخصية ساحرة، قُدرة فطرية على الكذب، عدم الشّفقة، أهدافًا غير واقعية، عدم التّعاطف، الاندفاع، وغيرها.

رغم ذلك يمكن أن يُجادل أيّ كان، في كيف يُمكن لشخص لديه هذه الصّفات، أن يشكّل زعيمًا جيدًا. وكيف يمكن لشخص أن يقود آخرين، إذا كان هو أو هي متهورًا، لا مباليًا وغير منطقي؟ تكمن الإجابة في أنّ هناك درجات من اللّون الرّمادي الذي يشير إلى كون الشخص مختلًا عقليًا. على سبيل المثال، المرضى النّفسيون في الدّرجة القُصوى من اللون الرمادي، يفتقرون إلى واحدة من أهم الصّفات لقيادة قوية وفعالة، وهي التّعاطف. فإذا كنت لا تستطيع التّواصل مع الآخرين، ولا تمتلك درجة عالية من الذكاء العاطفي، فأنت لست في وضع جيّد لتوجيه أشخاص آخرين، أو إقناعهم باتباعك.

ولكن إذا كنت على الطّرف الأقل تطرفًا من درجة الاختلال العقلي، لا يزال بإمكانك إظهار التّعاطف، في حين تمتلك أيضًا باقي الصّفات التي تشكّل نقاط تميّزك، من حيث القدرة على القيادة. فالسرّ يكمن في التحكّم في الأعراض. وهنا يبرز الفرق بين الجنون الجيّد والجنون المؤذِي، وهو معرفة متى يتم إظهاره أو إخفاؤه.

الاستمتاع بالجنون
بما أن الجنون ليس أمرًا سيئًا دائمًا، بل معظم العباقرة والكتّاب والفنانين، كانوا على درجة ما في سلّم الجنون. فبعض الجنون أمرٌ مستحبّ، ومن المُقلق أن يكون المرء عاقلًا دائمًا، ومنطقيًا فيما يفعل. حتى لو لم يكن للتميّز في الحياة، فمن أجل عدم السّقوط في الانهيار العصبي أو البلادة الشّعورية.

ومع كلّ فكرة مجنونة تخطر لنا، نفهمُ العالم والآخرين أكثر، نفهمُ مجازفاتهم وعلّاتهم. ونتقبّلهم لأنّنا نُصبح هم في لحظات جنوننا، يساعدوننا على تقبّل هفواتنا وأخطائنا، ونفهمها أكثر حين نُصبح هم.

إذ إنّ الذكاء العاطفي هو أمرٌ حيويٌ لتحقيق أهدافنا في الحياة الشّخصية والمهنية، ولكن جزءًا منه ينطوي على إقامة توازن سليم بين أن يكون المرء حساسًا جدًا، أو بدون إحساس على الإطلاق. فمَن حولك يريدون أن يشعروا بتعاطفك، لكنهم يريدون أن يثقوا في أنّك قادر على مواجهة الضّغوط. فإذا كنت غير قادر على التّحكّم في مشاعرك، لن يمكنك إنجاز أي شيء في حياتك وهذا من سيّئات المرض النفسي الأكثر شيوعًا.

وفي دراسة وردت في مجلة Elite Dail قام بها سكوت ليلنفيلد، أستاذ علم النّفس في جامعة إيموري، لتقييم شخصيات وأداء رؤساء الولايات المتّحدة، خلص فيها إلى أنهم كانوا أكثر نجاحًا عندما امتلكوا القدرة على السّيطرة على الخوف، وهي صفة تُعزى إلى المرض النفسي. وهي مزيج من عدم الخوف المادي والاجتماعي، ونوع من المرونة النفسية، لأنك لا تظهر الكثير من القلق أو الإحباط، في مواجهة تحدّيات الحياة اليومية.

وبما أن المرضى النّفسيين هم أفراد جريئون يحافظون على الهدوء تحت الضغط، وهي صفات حتمية لقيادة مؤثّرة. يمكنهم أن يكونوا أبطالًا في لحظات حرجة، فالاندفاع يجعلهم أقل ترددًا في اتخاذ المخاطر في حالات خطرة، والبطولة ترتبط بنكران الذّات، إذ لابد أن تكون متهورًا نوعًا ما، للتّضحية بسلامتك الشخصية من أجل الآخرين.

كل هذا يذهب لدعم فكرة أنّنا نعيش في عالم نسبي. ما هو سلبي على ما يبدو يمكن أن يؤدّي إلى أشياء رائعة، على حد تعبير روبن وليامز "نُمنحُ شرارة صغيرة من الجنون فقط، ويجب أن لا نخسرها".

المساهمون