لماذا تُعتبر أغاني بوب ديلان أدبًا؟

لماذا تُعتبر أغاني بوب ديلان أدبًا؟

03 نوفمبر 2016
(تصوير: أميلي كويرفورث / فرانس برس)
+ الخط -

شهدنا، أخيرًا، فوز بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب. أمرٌ فاجأ كثيرًا من الأدباء الذين انقسموا بين أولئك الذين شعروا بالاستياء، أو السعادة الغامرة. بوب ديلان، كمغنٍ، لا يحتاج إلى جائزة نوبل لتثبت أو تظهر أهميته الثقافية؛ سواء على الصعيد المحلي أو العالمي. الأمر المثير الاهتمام أكثر، هو أن يحصل مغنٍ على جائزة نوبل للآداب؛ ما يستدعي سؤال: هل يمكن أن تعتبر الموسيقى أدبًا؟

وأفضل تعليق جاء على هذا الخبر، كان من الشاعر ماثيو زابرودر (Matthew Zapruder) الذي كتب على صفحتهِ على الفيسبوك كردٍ على الناس المعترضين بأن بوب ديلان ليس شاعرًا: "نحن نتفق أن ما يقدمهُ ديلان ليس شعرًا، ولكن اسم الجائزة ليس جائزة نوبل للشعر".

هل يعتبر بوب ديلان شاعرًا؟ قطعًا لا. ولكن هل يمكننا أن ننظر إلى أعمالهِ على أنها أدب؟ فالإجابة هنا نعم. فطريقة أدائهِ وإخراجهِ لأعمالهِ تضيف لجوهر وروح الأدب في عصرنا. وطبعًا هذا يتضمن الموسيقى المصاحبة للكلمات التي يغنّيها، حيث إن الكلمات التي يغنّيها ليست شعرًا بحد ذاتها.

هناك اتفاق جمعيّ، تقريبًا، على أن الشِعر يتكون ويوجد فقط في عوالم اللغة، ولكن بالنسبة للقصيدة، فالأمر مختلف. حيث إن القصيدة تتكون من اللغة والموسيقى معًا. وتكون الجوانب الصوتية في الشعر مثل المقاطع الصوتية والوزن والقافية والسجع والنشاز والميتر الشعري مرافقةً للمحتوى الشعري، لتعمل على ضبط المزاج وإثارة التجربة الحسية المرتبطة بالمشاعر والصور في القصيدة. كما أنها تشير إلى تاريخ طويل من اللغة، مرددة أصواتًا وإيقاعاتٍ من الماضي ومزيحة للقصيدة مكانًا في التاريخ، وتربطه بتقاليد خالدة. كلمات ديلان وحدها ليست قصيدًا أو شعرًا، ولكن نتاجه النهائي من كلمات الأغاني والموسيقى والتوزيعات وما تحققه مجتمعة؛ فهي بلا جدال أدب.

ما قلناه أعلاه يضيف المزيد من التعقيدات والأسئلة مثل: هل ما تعنيهِ "الأغنية" هو آداء معين؟ أم تسجيل لأغنية ما؟ أم حتى النوتة الموسيقية (الفكرة المجردة للأغنية المغنّاة)؟ لنفترض الآن بأننا نتحدث عن تسجيلات الأغاني، والتي تشبه إلى حد ما مجموعة من الكتب المرصوصة على الرف لفترة زمنية محددة.

تحتوي كلمات أغاني ديلان على تقنيات شعرية أكثر من كلمات أي مغنٍ آخر (مثل بول سيمون وجوني ميتشل وهما منافساه الوحيدان في قائمة أفضل كتاب الأغاني الأميركيين)، ولكنها في نفس الوقت ليست شعرًا بدون الموسيقى التي تدعمها وتعطيها العمق الكافي للإشارة أو لدخول التاريخ؛ ما يجعل أغاني بوب ديلان أدبًا في جوهرها. وعلينا أن نعترف، إن لم تكن كلمات أغاني بوب ديلان شعرًا، فهي قريبة جدًا لأن تكون كذلك.

ولنأخذ نظرة مثلًا على المقطع الأول من قصيدتهِ "شارع الأسى" التي تحتوي على قائمة طويلة من الإشارات والصور الأدبية:

سهلة المنالِ تبدو سندريلا،
تقول: "شخص واحد فقط يفهمني" ثم تبتسم،
واضعة يديها على جيوبها الخلفية
على طريقة بِيت ديفيس،
يدخل روميو قاصدًا سندريلا ومتنهدًا:
"أنتِ لي"
فيرد عليهِ شخص آخر:
"أنت في الحكاية الخطأ يا صاح
ويفضّل أن تغادر"
والصوت الوحيد الذي بقيّ
بعد مغادرة سيارات الإسعاف
هو صوت سندريلا وهي تكنسُ حطام
شارع الأسى.

نرى أن كلمات هذه الأغنية قد كتبت على طريقة "مقاطع طويلة الشَعَر"، وفق الشاعرة لوسي بروك-بوريدو. وهي أسطر طويلة تتفق قافيتها كل سطرين (ولكننا عند بوب ديلان نرى بأنه قد قام بكسر كل سطر إلى نصفين حتى يتماشى مع ألحان الأغنية. كما نلاحظ فإن الشِعرَ يهتم أيضًا بعلاقة الشكل بالمحتوى).

في هذا المقطع، ثمة وفرة في الإشارات والتناص (ففيه يلتقي روميو بسندريلا، ولاحقًا في الأغنية تلتقي أوفيليا وروبن هود والعديد من الشخصيات المشهورة). وكما نقرأ عند أفضل كتاب الشعر المعاصر، يربط ديلان بين القديم والحديث (سندريلا وبيت ديفيس)، وبين الأشياء التي نراها في حياتنا اليومية (الجيوب الخلفية وسيارات الإسعاف) ويخلطها جميعًا برموز سامية مثل روميو، ويضع أيضًا ذلك النوع من الأسطر للذكرى الذي تحتاجه الكلمات لتُفهمَ مباشرةً: "يفضّل أن تغادر".

يمتلك ديلان أكثر من مجرد براعة في استخدام الإشارات والاستعارات، وقدرتهِ على اللعب بالكلمات كما يريد. ففي تحفتهِ الفنية الأخيرة "لم يحلّ الظلام بعد"، وهي أغنية تتحدث عن مواجهة الموت/الفناء، يكتب: "أشعر وكأن روحي قد تحولت إلى الفولاذ.. ما زلتُ أحمل الندوب التي لم تشفيها الشمس".

استخدام استعارة الروح الفولاذية هو استخدام قويّ ليبين الموت الداخلي الذي يظهر مع التقدم في السن. ولو أردنا أن نكون تقنيين أكثر قليلًا، فإن الفولاذ معادل موضوعيّ، وهو مصطلحٌ استخدمه ت. س. إليوت ليشير إلى أي شيء ذي عاطفة. الفولاذ معدن بارد وصلب ولا يعكس الصور عليهِ كالمرآة، وبمجرد استحضارك لصورة الفولاذ في رأسك، تصيبك حالة من الوحدة والتعب.

يمكننا أن ننظر إلى ديلان على أنه هوميروس، لكنه مهم بطريقة أخرى. تفصح منابعه المجهولة والعميقة في تاريخ الموسيقى الشعبية والبلوز عن شاعرٍ عريق، والذي لم يكن في يومٍ من الأيام كاتبًا، ولكنه بلا شك قد اجتث الأساطير اليونانية القديمة معًا لتشكيل الإلياذة والأوديسا من جديد.


(ترجمه عن الإنجليزية أنس سمحان)

المقال الأصلي: Why Bob Dylan’s Songs Are Literature

المساهمون