الكليات الأهلية العراقية... مستوى تعليمي متدن وفوضى استثمارية

الكليات الأهلية العراقية... مستوى تعليمي متدن وفوضى استثمارية

21 فبراير 2022
نمو كبير في أعداد خريجي الكليات الأهلية (Getty)
+ الخط -

تتزايد الكليات الأهلية العراقية بينما تتناقص جودة مخرجاتها التعليمية ويعاني خريجوها من تدن في مستوياتهم العملية والعلمية، بخاصة في مجالات مثل طب الأسنان والهندسة، ما أسفر عن تدمير مهني ممنهج كما تصفه لجان نيابية.

ترصد الدكتورة زينب الجميلي، أخصائية جراحة الفم والوجه والفكين، خلال عملها في مركز المأمون التخصصي الحكومي لطب الأسنان في بغداد، ضعفا واضحا في أداء خريجي الجامعات والكليات الأهلية، وخاصة الجدد منهم، يصل إلى حدّ الأخطاء الطبية في أمور بديهية، إذ تتعامل مع عشرات الخريجين ممن يتم إلحاقهم بالكوادر الطبية عبر التعيين المركزي.

وتصف الجميلي مهارات خريجي طب الأسنان من المؤسسات التعليمية الأهلية بـ"المتدنية"، قائلة: "شاهدت أخطاء يفترض أن أي طبيب أسنان على دراية بها، مثل القيام بطبعة سنية (بصمة العضّة لبناء قالب) قبل تركيب تقويم الأسنان، أو خلع عدد من الأسنان في حين لا يجب تجاوزه حفاظا على سلامة المريض من النزيف، ويستدعي الأمر تدخل أطباء الاختصاص والمسارعة بإصلاح الأخطاء حفاظا على صحة وثقة المرضى". ويعود ضعف خريجي الجامعات الأهلية "اللافت"، بحسب الجميلي، إلى قلة الخبرات العملية للكوادر التدريسية وارتفاع عدد الطلبة الملتحقين بها، وهو ما يوثق التحقيق أسبابه ويكشف تبعاته على العملية التعليمية ومخرجاتها.

توسع استثماري على حساب الجودة

وضعت الحكومة العراقية منذ نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي خطة استرشادية للقطاع الخاص حددت بموجبها التعليمات والضوابط والسياسات التشجيعية التي تبنتها آنذاك لتشجيع الاستثمارات في مجال التعليم الجامعي الأهلي، ضمن مخطط ينطلق من أن العلاقة بين الجامعات الحكومية والأهلية ليست تنافسية بل تكاملية، بهدف استيعاب تزايد عدد خريجي الثانوية العامة المقبلين على التعليم الجامعي، كما يوضح الدكتور محمد طاقة، الباحث في العلوم الاقتصادية وعميد كلية بغداد للعلوم الاقتصادية.

وتبدو زيادة عدد خريجي الكليات الخاصة بشكل كبير عبر حجم النمو المتزايد في عدد الملتحقين بها، إذ ضمت 20916 طالبا، مقابل 127494 التحقوا بالجامعات الحكومية خلال العام الدراسي 2015/ 2016، وفي العام التالي التحق بالكليات الأهلية 30000 ألف طالب، مقابل 158598 ألفاً في المؤسسات الحكومية، وارتفع عدد الملتحقين بالكليات الأهلية خلال العام الدراسي 2017/ 2018 إلى 36600 طالب، في مقابل 143000 طالب وطالبة التحقوا بالكليات الحكومية، بينما وصل العدد في عام 2018/ 2019 إلى 179027 طالبا وطالبة بالكليات الأهلية، في مقابل 518173 بالجامعات الحكومية، بحسب بيانات التقارير السنوية لجهاز الإحصاء المركزي العراقي والتي رصدتها معدة التحقيق.

يتركز التوسع في كليات الهندسة والصيدلة وطب الأسنان

وأدى الإقبال المتنامي إلى تشجيع المستثمرين على التوسع في تأسيس الكليات الأهلية، إذ بلغ عددها بين عامي 1988 وحتى 2000، 10 كليات فقط، ومنذ عام 2004 أخذ تأسيس الكليات يتسارع على الرغم من التغييرات التي شهدتها البلاد حتى وصل إلى 75 كلية في نهاية 2019، وتضم 570 فرعا دراسيا موزعة على الأقسام والكليات، في المقابل توجد 35 جامعة حكومية عراقية، بحسب بيانات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المنشورة على موقعها الإلكتروني.

ونتيجة التزايد غير المدروس في عدد تلك المؤسسات ظهرت مشاكل كبيرة، كان لها مردود سلبي على كفاءة إنتاجيتها التربوية والعلمية وتوفير الظروف الإيجابية السليمة تعليميا، وفق ما رصده طاقة خلال عمله على بحث بعنوان "مسارات التعليم العالي الأهلي في العراق للسنوات الخمس (2010-2015)، وهو ما أقر به وزير التعليم العالي سابقا قصي السهيل في تصريحات صحافية خلال مقابلة تلفزيونية في 11 يناير/ كانون الثاني 2019، قائلا إن "التعليم الأهلي لا يزال دون المستوى المطلوب"، عازيا الأمر إلى "رغبة بعض الكليات في تحقيق الربح السريع على حساب نوعية التعليم، والوزارة عازمة على معالجة ذلك الخلل بتصحيح مسار الكليات الأهلية. والجامعات التي لا تحقق الرصانة العلمية، سيتم سحب الإجازة منها".

القانون يخلق الفوضى

يجيز قانون التعليم العالي الأهلي في العراق رقم 25 لعام 2016، لمجلس الوزراء بناء على اقتراح من وزير التعليم العالي والبحث العلمي وبعد استكمال كافة متطلبات التأسيس، منح إجازة تأسيس الجامعة أو الكلية أو المعهد الأهلي لأي من الجهات الآتية: حملة شهادة الدكتوراه أو الماجستير من المتقاعدين أو من غير الموظفين ممن هم بمرتبة أستاذ مساعد على الأقل، على أن لا يقل عددهم عن 9 أعضاء لتأسيس الجامعة الأهلية، و7 لتأسيس الكلية الأهلية، و5 أعضاء لتأسيس المعهد الأهلي، بالإضافة إلى الجمعيات العلمية أوالنقابات المهنية ذات الاختصاصات العلمية والتربوية والثقافية، على أن تستوفي شروطا يذكرها القانون في الفقرة الأولى من المادة الرابعة.

وينتقد الدكتور أحمد الأمارة، المتخصص في إدارة التعليم العالي وضمان الجودة، والذي يعمل في جامعة الكوفة الأهلية، عدم وجود خطة دقيقة لاستحداث كليات أهلية بما يتناسب مع حاجة المجتمع إلى اختصاصات معينة، وإنما يفرض القانون شروطا كلما توافرت عند جهة معينة يجوز لها تأسيس كلية أهلية، ومنها شروط مثل أن يكون لها مساهمات واضحة في تطوير التعليم العالي والبحث العلمي، بالإضافة إلى أن تكون ذات قدرة مالية لتهيئة المتطلبات كافة التي تحدد بتعليمات تصدرها الوزارة، ما ولّد فوضى في قطاع التعليم تتماشى مع مصالح المتنفذين والمستثمرين، وانعكس سلبا على مستوى الخريجين من الكليات والجامعات الأهلية. ويؤكد حسين العبدلي، مدير دائرة التعليم الجامعي الأهلي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أن القانون يتضمن ثغرات عديدة تحتاج لمعالجات سريعة من قبل البرلمان العراقي لتغييرها، مثل متطلبات التأسيس، وإعطاء السلطة المالية والإدارية للجامعات والكليات الأهلية نفسها.

الصورة
التعليم الأهلي في العراق2

ويؤكد حسين العبدلي، مدير دائرة التعليم الجامعي الأهلي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أنّ القانون يضمّ ثغرات عديدة تحتاج إلى معالجات سريعة من قبل البرلمان العراقي لتغييرها، مثل متطلبات التأسيس، وإعطاء السلطة المالية والإدارية للجامعات والكليات الأهلية، بحيث يمكنها التحكم بالأقساط الدراسية لزيادة مرابحها كما تريد، قائلاً: "لدينا تحفظ كجهة وزارية في هذا الشأن، ولكن هذا ما تمّ تشريعه وفق القانون، ولدينا الرغبة في الكثير من التعديلات لتكون السلطة المالية الكاملة لوزارة التعليم العالي على الجامعات والكليات الأهلية من خلال وضع حدود معينة للأقساط تتناسب والوضع الاقتصادي للبلد".

تدني مهارات الخريجين

يرى طاقة أن أساس التعليم يقوم على تأهيل الإنسان من أجل خلق الكوادر المتخصصة القادرة على قيادة الأنشطة الإنتاجية المختلفة في المجتمع، وأن هذه المسؤولية تفرض على المؤسسات التعليمية أن تكون بمستوى علمي وتنظيمي يؤهلها لتحقيق أهدافها العلمية والتربوية، وهو ما يعتمد على طبيعة المخرجات إن كانت قوية أم لا، وفي حالة التعليم الأهلي في العراق، فإن مجموعة من العوامل ساهمت في تدني كفاءة الخريجين، أبرزها تدني معدلات القبول.

وبالمقارنة بين معدلات القبول في اختصاصي طب الأسنان والهندسة، بلغ الحد الأدنى للمعدل التراكمي للقبول في طب الأسنان بالكليات الأهلية 83% للعام الدراسي 2020/ 2021، بينما كان في الكليات الحكومية 99%، أما الحد الأدنى للمعدل التراكمي للقبول في تخصص الهندسة بالكليات الأهلية فكان بين 60% و72%، وفي الحكومية يتطلب دخول الهندسة على اختلاف فروعها معدلا يراوح بين 76% و96%، بحسب دليل الحدود الدنيا للقبول المركزي في الكليات والجامعات الحكومية والأهلية في العراق للسنة الدراسية 2020-2021. 

وبلغ الحد الأدنى للمعدل التراكمي للقبول في كليات القانون بالجامعات الأهلية 50%، وهو أدنى معدل يُقبل به. فيما كان الحد الأدنى للمعدل التراكمي للقبول في كلية القانون في الجامعات الحكومية بين 84% إلى 91%، بحسب دليل الحدود الدنيا للقبول المركزي في الكليات والجامعات الحكومية والأهلية في العراق للسنة الدراسية 2020-2021، التي تحددها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي كل عام.

بلغ عدد الكليات الأهلية 75 حتى نهاية عام 2019

وتبدو آثار هذا التراجع في معدلات القبول عبر تجربة أحمد طارق، الذي تخرج في مجال طب الأسنان عام 2014 من كلية الرافدين بالجامعة الأهلية في بغداد بمعدل 85%، وكان معدله عند التحاقه بها 83%، إذ واجه "كارثة" بعد تخرجه بسبب ضعف التطبيق العملي أثناء الدراسة الجامعية، ما اضطره إلى العمل كمتدرب دون أجر في عيادات خاصة، لتقوية مهاراته العملية.

ويعترف الدكتور طارق بأنه حتى الآن يواجه صعوبات مع بعض الحالات المرضية، مثل حالات قلع السن الجراحي، ويحولها إلى طبيب آخر. وفق روايته.

أما العشرينية منار محمد، خريجة هندسة الحاسوب من كلية المنصور الجامعة في بغداد، فتقول إنها تخرجت عام 2014 بمعدل 85%، وكان معدلها لدى التحاقها بتخصصها 62% في الفرع العلمي، ولم تحظَ بتعيين حكومي، كذلك فإنها خسرت فرص عمل كثيرة في القطاع الخاص بسبب ضعف مهاراتها العملية في بناء تطبيق إلكتروني أو تصميم صفحات الويب، على حدّ قولها، وترجع السبب في ذلك إلى المناهج التدريسية القديمة التي لا تواكب التطور السريع في قطاع التكنولوجيا حول العالم وضعف التدريب المتعلق بتطوير البرامج والتطبيقات الإلكترونية.

الصورة
التعليم الأهلي 3

وتردّ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، على لسان العبدلي، والذي يُقرّ بأن المبالغة في استحداث الكليات الأهلية، جعل بعضها يعاني من ضعف المستوى العلمي، مشيراً إلى أن الوزارة ذاهبة لتشخيص نقاط الخلل الموجودة داخل الجامعات والكليات الأهلية لمعالجتها، محيلاً المسؤولية في الخلل القائم على الوزراء السابقين، قائلاً: "ليس للجهات الوزارية الحالية ذنب فيها".

وينفق العراق أقلّ من 10% من ميزانيته العامة على التعليم (الأولي والعالي)، مقارنة بالدول الأخرى في المنطقة. وتمثل رواتب المدرسين والموظفين حصة عالية نسبياً من الإنفاق على التعليم العام بما يعادل 93%، بينما يُخصَّص 1% فقط من ميزانية الاستثمار في العراق لقطاع التعليم، وفق تقرير البنك الدولي بعنوان "معالجة أزمة رأس المال البشري: مراجعة الإنفاق العام لقطاعات التنمية البشرية في العراق"، الصادر في 31 مايو/أيار 2021.

انخفاض مخصصات قطاع التعليم ومخصصات الاستثمار في التعليم في الموازنة العامة للعراق يعتبرها طاقة أحد المؤشرات على واقع التربية والتعليم في البلاد، مؤكداً أن الاستثمار في التعليم يتطلب رؤوس أموال كبيرة تتعدى الإمكانات المالية لبعض الكليات الأهلية، لذلك لا بد من الدعم المالي والمساندة من قبل الجهات الرسمية، وبخاصة دعم وزارة التعليم العالي، وفي حال توافُر هذا الدعم، سيساعد الكليات الأهلية على تنفيذ مشاريعها وخططها الاستثمارية المطلوبة لتوفير المستلزمات الأساسية اللازمة لسير العملية العلمية والتربوية وضمان استمرارها. لكن في الواقع توجد صعوبة في المعادلة بين الطلب المتزايد على التعليم العالي والكلفة المتزايدة لهذا التعليم، في ظل وضع اقتصادي قاسٍ يعاني منه الاقتصاد العراقي الذي تدمرت قاعدته الإنتاجية، وجعلت هذه الظروف الهدف الربحي، الهدف الأساسي وراء التوسع في الكليات الأهلية، كما يقول.

اختصاصات تدرّ الأموال

يتركز التوسع في كليات طب الأسنان والهندسة والصيدلة تحديدا لكونها أكثر الاختصاصات التي تدرّ الأموال لتلك الكليات، وفق رصد معدة التحقيق، إذ وصل عدد كليات طب الأسنان الأهلية في العام الماضي إلى 30 كلية، مقابل 20 كلية حكومية. أما كليات الهندسة الأهلية، فبلغ عددها 58 كلية، تضم فروعا متعددة، في حين أن الحكومية عددها 37 كلية، بينما كان عدد كليات الطب البشري الحكومية 33، في حين أن الأهلية 3 كليات.

الصورة
وثائق التعليم الأهلي 1

وأجرت معدّة التحقيق مقارنة للأقساط الدراسية في تخصُّصَي طب الأسنان وهندسة تقنيات الحاسوب بين 5 كليات أهلية، هي كلية الرافدين الجامعة، وكلية التراث الجامعة، وكلية دجلة الجامعة وكلية الإسراء الجامعة، بالإضافة إلى كلية الرشيد الجامعة، حيث راوح القسط السنوي لتخصص طب الأسنان بين 8 ملايين دينار عراقي (5473.8 دولاراً) و10,950,000 دينار (7492.3 دولاراً) في الكليات الخمس. أما تخصص هندسة تقنيات الحاسوب، فيراوح القسط السنوي له ما بين مليونَي دينار و3 ملايين و500 ألف دينار (1368.4-2394.8 دولاراً)، بحسب دليل الطالب للتقديم المنشور على البوابة الإلكترونية للتعليم الأهلي.

وتثبت 3 قرارات بالموافقة على استحداث أقسام صيدلة في 3 كليات أهلية خلال عام 2020، حصلت عليها "العربي الجديد"، غياب التخطيط في منح الموافقات عبر وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والمنوط بها تنظيم استحداث الأقسام والكليات وفق حاجة البلاد، إذ بلغ عدد أقسام الصيدلة في الكليات الأهلية 25، وفي الجامعات الحكومية 21 كلية.

وترتب على هذا العدد الكبير وجود فائض من الاختصاصين بواقع 23861 طبيب أسنان و61833 صيدلياً لخمس سنوات دراسية قادمة، كما تبين من خلال توصيات صادرة في 1 أغسطس/ آب 2021 عن اللجنة التي شُكلت بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 92 لعام 2020، لتحديد خطة القبول في كليات المجموعة الطبية والصحية والصحية المساندة، أن اللجنة أوصت بتقليل خطط القبول في الجامعات الأهلية والحكومية لتخصصي طب الأسنان والصيدلة، في حين أيدت استحداث كليات أو أقسام الطب العام في بعض الجامعات الحكومية والأهلية.

الصورة
وثائق التعليم الأهلي 2

هذه التوصيات اعتبرتها لجنة الصحة والبيئة النيابية "غير دقيقة"، وخاصة في ما يتعلق بزيادة القبول واستحداث كليات الطب البشري الأهلية. وتوضح الوثيقة الصادرة عن اللجنة النيابية في 5 سبتمبر/ أيلول 2021، أن التوصيات خرجت عن أصل القرار 92 الذي نص على مناقشة خطة القبول وليس استحداث كليات طب بشري أهلية، علما أن عدد الطلبة في كليات الطب البشري في جميع كليات العراق، باستثناء إقليم كردستان، يقدر بأكثر من 36 ألف طالب، وهذا يعني أن 36 ألف طبيب سيضافون لعدد أطباء العراق بحلول عام 2027، والاستمرار بالاستحداث والقبول بهذه الطريقة سيفوق الحاجة بكثير ويصعب حتى تعيينهم، وهو ما حصل في اختصاصي طب الأسنان والصيدلة الأهلية، فكان ذلك "تدميرا ممنهجا لهذه المهن"، كما تقول الوثيقة.