جديد اللبنانية سارة فرنسيس: وجهٌ آخر للقمر

جديد اللبنانية سارة فرنسيس: وجهٌ آخر للقمر

22 ابريل 2020
السماء والأرض: سينما المقال (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
عن الدلالات المختلفة للقمر، الشعرية والأسطورية والعلمية والسياسية والنفسية، وعن الانقسام المتزايد بين الفضاءات الخارجية والداخلية، المادية والروحية، تدور أحداث "كما في السماء، كذلك على الأرض"، للّبنانية سارة فرنسيس، المُشارك في "المنتدى"، في الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي".

جديدها هذا يأتي بعد 7 أعوام على فيلمها الطويل الأول "طيور أيلول" (2013)، الذي استكشفت فيه بيروت بعربةٍ تطوف شوارعها، حاملةً كاميرا ترصد كلّ شيء من وراء زجاجها: الشوارع والبشر والبنايات والجدران والإيقاع والألوان. تصوير مصحوبٌ بتعليقات الراوي وتأمّلاته بين حين وآخر. في الطريق، يستقلّ مجهولون العربة. لكلّ واحد منهم وجه وجسد وصوت ومشاعر ووجهة نظر وحكايات واعترافات شخصية، صادقة وحميمة. معهم، تتحوّل العربة إلى ما يشبه كرسيّ الاعتراف.

لأسلوب سارة فرنسيس في "طيور أيلول" خصوصيته وتفرّده، رغم أنّ الموضوع ليس جديداً، سينمائياً. في "كما في السماء، كذلك على الأرض"، تتأكّد خصوصية أسلوبها وفرادته، مع أنّ التحدّي ـ الناجم عن كون القمر، وكلّ ما يتعلّق به، موضوعاً مطروقاً منذ القدم ـ يكمن في أنّ الطرح أكثر ابتكارية وجدّية وتجريدية، إذْ يتّسع الخطاب في النهاية، فيخرج من المحليّ والذاتيّ إلى الكونيّ.

فيه، لا تتخلّى فرنسيس كثيراً عن نهجها الذي اعتمدته في فيلمها السابق. الأكثر بروزاً، اعتمادها شبه المطلق على الراوي في سرد الأحداث والانطباعات والتأمّلات ووجهات النظر، واللجوء إلى الأبيض والأسود طول مدّته، والاستخدام الدائم للفواصل ذات الخلفية السوداء، والحمراء أحياناً، للانتقال من مشهد إلى آخر. هذا مع توظيفها الثابت تقريباً لكتابة شرح المعاني المُعجمية الكثيرة لمُفردة القمر، كالباحور والوبَّاص والطوس والسنمار والغاسق والبدر، وغيرها.

ينتمي "كما في السماء، كذلك على الأرض" (يُحيل عنوانه إلى الآية 10 من الإصحاح الـ6 في إنجيل متى: "ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض")، إلى نوع السينما التسجيلية، التي يُطلق عليها اسم "السينما المقال"، لابتعاده عن الروائيّ أو التجريديّ، رغم النفس الدرامي والتجريد الظاهرَين. كذلك، يصعب وصفه بالوثائقي، بالشكل المتعارف عليه. إنّه "فيلم مقال" معلوماتيّ وتأمّلي وشاعري، وذاتي بعض الشيء. ورغم غرابة التوليفة، تنتفي ـ بعد دقائقه الأولى، واعتياد إيقاعه وأسلوبه ـ صعوبات التواصل والتفاعل معه، والاستمتاع به.

جزء من الاستمتاع متأتٍّ من مهارة سارة فرنسيس وذكائها في بناء فيلمها، وتبديل إيقاعه، رغم انتفاء الأحداث، وتكرار بعض المشاهد كثيراً حدّ التطابق، وعدم وجود أبطال، بل بعض الأشخاص الذين لا نعرف شيئاً عنهم، للانشغال بهم طول الوقت. من هم؟ من أين جاؤوا؟ إلى أين يذهبون؟ انشغال بمصائرهم، وبما يأتونه من أفعالٍ تبدو غريبة أو عبثية لوهلة أولى.

من ناحية أخرى، هناك كسر دائم لرتابة الإيقاع، وابتعاد عن الملل، عبر تقنيات عدّة: القطع الدائم، والخلفيات المتغيّرة، والكتابة التي تظهر بين حين وآخر في أركان الشاشة، إلى بثّ معاني القمر. مثلاً: إحساس غير محدّد، قلق، أمل، بيتي، المطبخ، القمر، إلخ. أو فكرة، كلب شارد، ذكرى. بالإضافة إلى مقاطع من قصيدة "مقتل القمر" (1974) لأمل دنقل.
أما الإيقاع الصوتيّ، أو الركن الرئيسي القائم عليه الفيلم، والمكوِّن المحوري لحبكته، فدائم التغيّر، إذْ تسرد الراوية (ربما المخرجة نفسها)، الكثير ممّا هو عام، أو ذاتيّ الطابع، ومعلومات كثيرة قائمة على الاجتماعي والعقائدي والفولكلوري، وإنْ كانت للمعلومات ذات الطابع السياسي النصيب الأكبر، وهذه مُقدَّمة في صيغة تقرير أو مقال صوتي، لا كتعليق: اتفاقية القمر، والصعود إلى سطحه، والأنشطة والقوانين المنظِّمة لذلك. أو شخصية "هوب"، الذي باع مئات الأفدنة بـ20 دولاراً لرؤساء وممثلين ومشاهير، ثمّ أسّس "حكومة المجرّة"، لحماية حقوق 6 ملايين شخص من مُلّاك العقارات القمرية.

كذلك تسجيل أول محادثة تلفونية عبر القمر الصناعي بين الرئيس الأميركي جون كيندي ورئيس الوزراء النيجيري أبو بكر رفاوا، في 23 أغسطس/ آب 1963، وطبعاً سباق التسلّح بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدّة الأميركية سابقاً، وبين روسيا والولايات المتحدّة نفسها والصين حالياً، بعد تجدّد سباق الفضاء عقب هبوط مركبة فضائية صينية، للمرّة الأولى، على الجانب المظلم من القمر. هناك معلومات أخرى كثيرة أيضاً، وأصوات بشرية أحياناً، ومفردات الحياة اليومية في أماكن مختلفة. هذا كلّه موظّف جيداً، وبشكلٍ مؤثّر. واللافت للانتباه، أنّه ـ رغم كثرة المعلومات ـ هناك ابتعادٌ ملحوظ عن الحشو، وتجنّب كبير للثرثرة ولغير المفيد. والأهم: وجود مساحات ملموسة من الصمت.

بصرياً، للسكون حضور طاغٍ على مَشاهد الفيلم، المُتمركزة أساساً داخل فضاء فسيح، عبارة عن حقل شاسع تربتُه جرداء، وخلفيّته سماء رمادية كثيفة السحب، وجبل داكن. ترصد الكاميرا، الثابتة غالباً والمتحرّكة قليلاً، رجلاً في أواخر الخمسينيات من عمره، يتأمّل البعيد. لا يتحرّك أحياناً، لكنّه، أحياناً اخرى، يتجوّل أو يُسرع الخطى. بين حين وآخر، تتّسع الرؤية فيظهر رجال ونساء مجتمعون أو جالسون أو واقفون في الصفّ، انتظاراً لدور كلّ واحد منهم في التأرجح على أرجوحة ذي مقعدين، منتصبة في مكان ما في الحقل. القمر دائماً في الخلفية، إنْ كان حقيقياً أو مفتعلاً، وخصوصاً في المَشاهد الليلية، إذ نكتشف لاحقاً أن القمر أضواء بطّاريات في الظلام. طول الوقت، تتكرّر مَشاهد الرجل الوحيد، والذين ينتظرون الأرجوحة.

عبر التأرجح والأرجوحة، تربط سارة فرنسيس فكرة القمر بعلاقة الناس به، مع فكرة انعدام الاستقرار واختلال التوازن، وعدم الثبات أو التذبذب الدائم. كما تطرح العلاقة بين الحركة البدنية (حركة الجسم) والتقلّبات والسكون والاستقرار والطمأنينة والسلام الداخليّ.

يصعب التكهن بمدى دقّة العلاقة بين الفكرتين وقوّتها. لكن، بصرياً ومع السرد الصوتي، تنتج حالة تناغم، تقضي على الغرابة والتباعد بين الفكرتين، وتصهرهما معاً بحساسية تقترب من الشعر في إطار تأمّلي متفرّد. وعبر هذا كلّه، تُقدّم سارة فرنسيس، بنضج، وجهاً آخر للقمر.

المساهمون