"الراهبة": استمتاع المتفرّج بالرعب

"الراهبة": استمتاع المتفرّج بالرعب

01 مايو 2019
"راهبة" كوران هاردي: رعب المُدنَّس (فيسبوك)
+ الخط -
في "الراهبة" (2018) لكوران هاردي، تقع أحداث اللغز، الذي يجب حلّه، في ديرٍ في جبل وعر. لا يليق بخدّام الله العيش في سَهْل. سكن الكهنة الجبال منذ القدم. حتى أحصنة الزوّار تقف في السفح، كي لا تطأ الأرض المرتفعة المقدّسة. 

هكذا قُسِّم المكان إلى واحدٍ يُقدَّس فيه الله، وآخر مُدنَّسٌ لا يدخله الله. ترتكب الراهبة خطيئة دخول المكان المُدنّس. كلّ ما تتعرّض له عقابٌ مُستَحقّ. ما إنْ عبرت العتبة، حتى بَطُل تأثير المسبحة والصليب المُعلّقين في رقبتها لحمايتها من الشرّ.

هناك مكان مُقدّس تسكنه روحٌ شريرة يجب طردها. روح شيطانية ذات قوة خارقة ومؤذية في فضاء عجائبي: غُرابٌ على صليبٍ ومسبحة؛ نساء يحملن قناديل؛ شمعٌ ونارٌ مُقدَّسة؛ روح شريرة تتلاعب بأيقونات الديانة؛ تزامن بين الأحياء والأموات؛ روح شريرة لميتٍ تعود لتُنغِّص حياة سكان قرية جبلية. يتّخذ الشر الخارج من الشيطان شكل حيّة، وهي أَحْيَل الكائنات.

يخرق العجائبيُّ منطق العقل. في هذا الفضاء الاستثنائي كلّه، هناك شخصية واقعية: فلّاحٌ شاب أعزب يخدم راهبات في دير جبلي. للمشهد نهاية غريبة في قصص "الديكاميرون" لبوكاشيو. فلاح ساخر، لا يوقِّر تقاليد الدير. لذا، هو عنصر شكّاك ومشوِّش بالنسبة إلى رجال الدين. في لقطة قصيرة أخرى للشكّ، يستغرب الأطفال وجود ديناصورات، وإنْ لم يذكرها الإنجيل. يحقّ للأطفال وحدهم إبداء ملاحظات كهذه. كبار السنّ غارقون في اليقين.

فيلم عن 3 شخصيات وشبح بملامح ذات صدى في خيال المُتفرّج. لزرع الخوف في قلوب المُتفرّجين، يقدّم كوران هاردي لحظات صمت، قبل ارتفاع صوت فجأة، في مكان نصف مظلم. يستمتع المُتفرّج برعبٍ يجتاحه، هو المدمن على أمان في المدينة العصرية. يتفرّج ويأكل الذرة المقلية.

الموت حدث مُرعب. عودة الأموات أكثر رعبًا. الطيّب في هذا كلّه كامنٌ في أنّ المؤمنين لا ينتحرون، لأنهم محصَّنون ضدّ الشكّ. انتحار أحدهم خطر على الكنيسة. لذا، يُرسل الفاتيكان من يحقِّق في الواقعة. التكليف بتحقيقٍ يعني أن هناك أسرارًا. التحقيق محتاج إلى معرفة عميقة بالميتافيزيقيا، كما يُفترض به أن يكتشف حقائق لن يسلِّم بها إلّا المؤمنون بسلطة الأرواح على الأحياء.

في هذه الفوضى، معطيات ثابتة: أولاً، الحرب العالمية الثانية حرّرت الروح الشريرة التي اعتقلتها الكنيسة. ثانيًا، الرومانيون مؤمنون، بعيدًا عن شيوعية الرئيس نيكولاي تشاوتشيسكو. ثالثًا، لا تستطيع قوى الشر إيذاء مبعوث الفاتيكان.

يسرد كوران هاردي الوقائع العجيبة بلا فلسفة في الحوار، أو في حركة الكاميرا. يهمّه أن يفهم المتفرّج باللقطة فورًا ويحسّ بها، ليكون جاهزًا لاستقبال التي تليها. لذا، اللقطات واضحة. حين تكون اللقطة مُهدَّدة بغموض يُسبِّب التأمّل ويعطّل التسلية، يضيف هاردي لقطة أو جملة توضيحية. مثلاً: يظهر ناقوس على مقبرة، ويفسّر راهبٌ السبب. يظهر شخص في قبر وهو يدقّ جرس النجدة. سردٌ بالصورة أولاً، وبالصوت ثانيًا. شخصٌ يغطّي النوافذ. تتدخّل صاحبة الحانة للشرح: "هذا لصدّ الأرواح الشريرة". هكذا يوضح هاردي لمتفرّج عادي. حتّى المتفرّج الذي يظنّ نفسه عبقريًا عاديٌّ. لذا، يُحقِّق فيلم كهذا أرباحًا بمئات ملايين الدولارات الأميركية. فيلم يُظهر حجم الرعب من الموت، ويقول إنّ الخلاص كامنٌ في الإيمان بالله.
"الراهبة" فيلمٌ عجائبي، بخلفية دينية قروسطية. إنه عن رؤيا مريم، التي تمنح الرائي قدرات خارقة. تحتاج كتابة سيناريو كهذا معرفة عميقة بالسرد الديني القروسطي. معرفة تُثمر سردًا دينيًا ذا بعدٍ تواصلي قويّ، يضع أفق انتظار المتلقّي في اعتباره، ويسدّد عليه. كلّ سرد لا يتواصل مع المتلقّي حذلقةٌ أسلوبية. 

يستثمر الفيلم مرجعية مزدوجة، تشكيلية وسردية. يستلهم لوحات الأشباح المرسومة في العصور الوسطى. بدايته تعلن أن الروح الشريرة خرجت من صورة. هذا مخالفٌ لقول الرب في سفر الخروج: "لا تَصنَعْ لكَ تمثالا مَنْحوتًا ولا صُورة". يبدو أن البيت الذي فيه صُوَر لا تدخله الملائكة، بل الشياطين فقط.

المرجعية السردية عتيقة، تلتقي فيها ثقافات مختلفة، ما يُفسِّر النجاح المدوّي لأفلام عودة الأموات، لتنغيص حياة الأحياء. هذا بات مصدر ربح لمنتجي أفلام كهذه.

في "الغصن الذهبي ـ دراسة في السحر والدين"، فَحَص جيمس جورج فرايزر معتقدات الشعوب من مختلف أنحاء العالم، مقارنًا بينها. خلص استقرائيًا إلى وجود أوجه شبه كبيرة بين معتقدات مختلفة. لكن عرض هذا في فيلم، يصل إلى ملايين البشر، يجعله أكثر تأثيرًا. الأهمّ ليس صحّة طقوس الخوف من عودة الأموات، بل تشابه ردود فعل المُتفرّجين من وجهة نظر علم النفس المقارن.

في "الراهبة"، يطرد الكاهن الكبير، المُسلّح بالصليب، الروحَ الشريرة من جسد راهبة. إنه الصرع، أو الرقية الشرعية في الثقافة المسيحية القروسطية. حاليًا، تكثر في الدار البيضاء دكاكين الرقية الشرعية لطرد الجنّ من البطن، وإخراج اللعنة من العظام. تنجح أفلام تشتغل على المعتقدات العريقة، لأن للمتفرّج فكرةً مسبقةً تسهّل عليه الفهم. لذا، حين لا يحدث شيءٌ في اللقطة، تحفر الموسيقى التصويرية عميقًا في لاوعي المتفرّج. يقول فرايزر إنّ "الإنسان البدائي أخفق في إدراك حدود قدرته على التحكّم بالطبيعة، فعزا لنفسه ولغيره من البشر قوى معيّنة، نسمّيها الآن قوى خارقة" (ص. 136).

عندما يحقّق فيلم كهذا مئات ملايين الدولارات الأميركية كأرباح، يبدو أن الإنسان البدائي لا يزال جاثمًا في اللاوعي. إنّه إعادة إنتاج الماضي، بدلاً من تفكيك أساطيره. الأمر الوحيد الجديد في "الراهبة" كامنٌ في أنّ الفلاح الفرنسي الساخر (العلماني؟) وحده يعتقد أن الرصاص أجدى من الرقية الشرعية.

المساهمون