الدراما السوريّة آداة لتلميع النظام

الدراما السوريّة آداة لتلميع النظام

11 أكتوبر 2016
مشهد من مسلسل "باب الحارة" (MBC)
+ الخط -
لم ينظر النظام السوري إلى الأعمال الدرامية، المنتجة في بلاده، على أنها منتج فني يثير الأسئلة، ويطرح الإشكاليات المتعلقة بالقضايا الثقافية والجمالية، بل كانت علاقته مع هذا الفن، تندرج في إطار محدود، يرتبط بكيفية استخدامه وتوظيفه، ضمن لعبة المصالح والنفوذ التي يديرها من أجل مشروعه السلطوي القائم على التأبيد في الحكم.
وانطلاقاً من تلك الرؤية وبدافع ثقافته الشمولية واستبداديته المفرطة، استخدم النظام الدراما كسلاح سياسي يقوم بأدوار وظيفية متداخلة وعلى عدة مستويات، بدءاً من تقديم الدعاية المبطنة لسياسته، عبر تحميل المضامين الدرامية في بعض المسلسلات بما يتوافق ورؤيته للعديد من القضايا والأحداث، سواء الإقليمية أو المحلية، وصولاً إلى محاولة تشكيل صورة ذهنية مثالية لدى المتلقي عن طبيعة نظام حكمه "الرشيد"، بعد إدراكه بتحوُّل الدراما التلفزيونية السورية، بشكل ما، إلى إحدى المرجعيات الثقافية والمعرفية المهمة لنسبة كبيرة من الجمهور العربي.

لم يقتصر الدور الوظيفي لتلك الدراما، على تحويلها إلى وسيلة من وسائل القوة الناعمة، بغية التأثير على المحيط العربي وحده، بل شملت أيضاً الداخل السوري. إذ كانت الدراما وبشكل غير مصرح به، إحدى أهم القنوات والمنافذ التي يفهم من خلالها السوريون حدود حريتهم، والمدى المسموح به للحديث والانخراط في الشأن العام. فسقف الحريات في المسلسلات، هو ذات السقف المسموح به للسوريين في الواقع الحقيقي والمعاش. مثلاً، لم يسمح لأي مسلسل درامي تناول شخص الرئيس وصلاحياته ونهجه، حتى ولو بكلمة واحدة، أو حتى تناول الأجهزة الأمنية الرئيسية. بينما كان من المسموح به الخوض في أحاديث طويلة عن أداء الحكومة ونقدها، وهو ما تجلى، ويتجلى الآن، في واقع السوريين وأحاديثهم العامة.

في هذا الصدد، يمكن التكهّن بلعب الدراما لدور مركزي، فيما يمكن تسميته "بالتفريغ الانفعالي" للمشاهدين، و"التنفيس" عن الاحتقان الحاصل في النفوس، بسبب الأوضاع المعيشية والحياتية الصعبة. حتى قبل الثورة والحراك الشعبي بسنوات، كان يتم ذلك "التفريغ" بعرض بعض المسلسلات الكوميدية التي تتناول الأوضاع الاجتماعية بالنقد والهجاء، دون التطرق إلى الجوهر السياسي المسبب لهذه الأزمات. على العكس، انخرطت الكثير من المسلسلات في تحريف الحقائق عبر توجيه اللوم إلى الحكومة ووزاراتها، وكأن سورية كانت محكومة ومدارة من قبل رجالات الحكومة، وليس من قبل رجالات المخابرات ونهجهم الاستبدادي. كان ذلك التوجه واضحاً في العديد من المسلسلات الكوميدية كـ"بقعة ضوء" و"ضيعة ضايعة"، و"المرايا" بأجزائها الماراثونية.

ربما يعتقد البعض، بأن سقف النقد في تلك المسلسلات كان عالياً، مقارنة بالوضع العام للحريات في سورية، وبأن الكثير من الأعمال الدرامية، لم تكن متوافقة مع سياسة النظام ونهجه وتوجهاته، على اعتبار أنها تحمل شحنة من النقد والتقريع، لا تتوفر لدى أي جهة أو وسيلة أخرى. هذا صحيح بصورة جزئية وآنية، لكن في المجمل كانت هذه الخطوة جزءاً من سياسة النظام، ونظرته إلى الدراما ووظائفها، إذ كانت كل الجمل والكلمات والحوارات يتم تدقيقها من قبل لجان رقابية، تقوم بتقييم فائدة وخطورة كل عمل درامي، بعد تعديل بعض المفاصل في السيناريو ليتناسب مع رؤية وتوجهات النظام الحاكم.

حقيقة، لم تشهد الساحة الدراما السورية أعمالا نوعية اخترقت إرادة النظام، طبعاً، النوعية هنا، لا تعني الجرأة في طرح المواضيع، بقدر ما يرتبط الأمر بإنتاج أعمال متكاملة، تحقق حزمة شروط فنية ومعرفية وذوقية. ذلك أن تناول المواضيع الشبيهة بموضوعات الصحافة الصفراء، لا يعني أبداً حدوث خرق نوعي في الفن الدرامي، وهو ما تبدى للعيان بعد ظهور ما يعرف "بدراما الحسناوات"، واختيارها مغازلة المنطقة الفاصلة بين الكبت الجنسي وحدود الرقابة، كما في مسلسل "دامسكو".
وتتمة لدورها الوظيفي، لعبت بعض المسلسلات دوراً مساعداً لسياسة النظام في تمكين "ثقافة الاستهلاك" و"التسطيح"، وذلك بعدم تناول الموضوعات بالشكل والعمق المطلوبين. إذ كان يتم الحديث، تقريباً، عن كل شيء من دون أن يدل ذات الحديث على أي شيء. مثلاً، كان يتم التطرق إلى "الفساد"، ليس بكونها ظاهرة عامة في البلاد، تدعمها جهات قوية ومتحكمة في مراكز القرار والنفوذ والسلطة، بل يتم تقديم موضوع الفساد في الدراما، على أنه ناتج عن حالات فردية وشخصية غير مترابطة يقوم بها "ضعاف النفوس".

الواضح أن تلك السطحية ازدادت بفعاليتها مع خلق قطاع الدراما لنجومها الممثلين، ودفعهم إلى الفضاء العام تماشياً مع "ثقافة النجوم" الدارجة في العالم، و إظهارهم على الشاشات الرسمية، كمنظّرين في الفكر والتوجيه السياسي والمجتمعي والأخلاقي، من دون أن يمتلك أولئك "النجوم" الخلفيات الثقافية والمعرفية الوافية والرصينة، والتي تؤهلهم للعب هذا الدور.

ويبقى الأهم من كل تلك الأدوار الوظيفية، هي الفرص الاستثمارية الكبيرة، التي وفرتها الدراما لعدد من رجالات النظام، إذ فتح هذا القطاع المجال واسعاً أمام عدد منهم لفتح شركات وهمية تعمل في الإنتاج الدرامي، تلك الشركات التي تجاوز عددها 400 شركة مسجلة في لجنة صناعة السينما والتلفزيون، بينما لم يتجاوز العدد الفعلي للشركات المنتجة للأعمال الدرامية على أرض الواقع عدد أصابع اليد.

المساهمون