صالح وداود الكويتي: عودٌ وكمان يلوّحان للعراق

صالح وداود الكويتي: عودٌ وكمان يلوّحان للعراق

02 ديسمبر 2018
(أسّس الأخوان فرقة أصبحت هي المجموعة الرسمية في الإذاعة)
+ الخط -
كانت مفاجأة كبرى وحزينة أيما حزن للباحث الموسيقي المعروف حسقيل قوجمان، حين التقى صدفة الفنان العراقي داود الكويتي (1910 - 1976) في سوق حنون، في حي يُدعي حي الأمل، في فلسطين المحتلة، وهو سوق شبيه بسوق حنون في بغداد.

كان داود يبيع الأدوات المنزلية المستعملة، متخذاً منها مهنة يعيش منها هو عياله. يقول قوجمان: "فوجئت ودهشت لرؤية داود الكويتي في حنون وهو يتعامل مع سيدة على ثمن قدر صغير". يضيف: "لم أعرف داود الكويتي شخصياً، لكني أعرفه موسيقياً. وقلت في نفسي؛ إذا بلغ وضع داود الكويتي هذا المستوى، مستوى بيع أدوات المطبخ من أجل الرزق؛ فإن تاريخ صالح وداود الكويتي ودورهما في الموسيقى العراقية أصبح نسياً منسياً".

هذان الفنانان اللذان قدّما للموسيقى العراقية أجمل ما في جعبتيهما من عطاء جمالي، واعتُبرا من أهم المجددين في العزف والتلحين الغنائي، كانا قد سُحبت منهما الجنسية العراقية وطلب منهما الرحيل خارج وطنهما العراق، لأنهما يهوديان. كان ذلك في الحادثة المعروفة باسم "فرهود اليهود"، عام 1948.



فرقة صغيرة
ولد الأخوان صالح وداود الكويتي من أسرة عراقية تعمل في التجارة، تنقلت بين إيران والكويت والهند والعراق. حين استقرت العائلة لفترة من الزمن في الكويت، وجد الأب رغبة ولديه وولوعهما بالغناء والموسيقى؛ فطلب من خالهما شراء آلتين موسيقيتين لهما. كان العود من نصيب داود، والكمان لصالح.

بدأ الاثنان يتعلمان العزف مستعينين بجهاز الغرامافون، ويستمعان لأغاني ذلك الزمان التي تيسر تسجيلها، مثل الأغاني الخليجية والمصرية والعراقية؛ فتعلّما سريعاً جراء حبهما الشديد للموسيقى والغناء. وقد اعتمدا على نفسيهما في ذلك. لكن، في ما بعد، أخذا دروساً متقدمة في الموسيقى والعزف على يد الموسيقي الكويتي المعروف، آنذاك، خالد البكر.

أخذا عنه الموسيقى الكويتية والبحرينية وفن الغناء (أغاني البحر خصوصاً). وما إن أصبح صالح الكويتي في الخامسة عشرة من عمره، حتى شكل هو وأخوه فرقة موسيقية صغيرة، يقدمان من خلالها الموسيقى في الحفلات الخاصة في بيوت الشيوخ والعوائل ميسورة الحال في الكويت. يقدمان ما يحفظانه من الأغاني التي انتشرت في العشرينيات.


الرحلة إلى بغداد
بعد أن ذاع صيت الأخوين، فكّرا في الذهاب إلى بغداد؛ فهناك تنتشر الملاهي الكبيرة التي تعج بالمطربين والمطربات. استقرا في ملهى الهلال، وهناك تعرف صالح الكويتي إلى المطربة سليمة مراد، وصار بينه وبينها تعاون موسيقي امتد حتى هجرته القسرية عام 1951؛ حيث غادر العراق مرغماً وإلى الأبد.

بعد أن رأت الفنانة سليمة مراد وسمعت فن صالح المتقدم، طلبت منه أن يلحن لها أغنية؛ فقدم لها في البدء أغنية كان قد لحنها في الكويت على إيقاع الصوت المشهور؛ فأعاد صياغتها وفقاً للروح البغدادية، مغيراً إيقاعها إلى إيقاع الجورجينا. يقول صالح: "كنت أقدم لسليمة مراد، من شعر عبد الكريم العلاف، بين خمس إلى ست أغنيات في الأسبوع؛ فكانت تستقبلها بفرح غامر وتغنيها بأداء جميل".

الأغنية الأخرى التي جعلته شهيراً، حتى وصل صيته إلى مصر والكويت، هي أغنية "قلبك صخر جلمود ما حن عليه". هذه الرائعة، لحناً وشعراً وأداءً، صارت أغنية العصر، حتى إن السيدة أم كلثوم أعجبت بها. من أبرز المطربات اللواتي تعامل صالح معهن؛ نرجس شوقي، إذ لحن لها معظم أغانيها وجمعتهما قصة حب شيقة انتشرت أخبارها في الوسط الفني آنذاك.

كذلك المطربة منيرة الهوزوز، وزهور حسين، وجليلة أم سامي، وسلطانة يوسف، وبدرية أنور، وعفيفة إسكندر. ومن المطربين، نذكر: حضيري أبو عزيز وداخل حسن، وأخوه داود الكويتي الذي سجل بصوته جميع ألحان صالح، وعبد الصاحب شراد وغيرهم الكثير.



في الإذاعة العراقية
شكّل صالح الكويتي، حين استقر تماماً في بغداد، فرقة موسيقية، لتكون هي المجموعة الأساسية في الإذاعة العراقية التي افتتحت عام 1936، وقد اختار لها موسيقيين مهمين، هم: داود الكويتي (عود)، ويوسف زعرور (قانون) وإبراهيم طقو (تشيلو) ويعقوب العماري (ناي) وحسين عبد الله (إيقاع).

كان صالح يحمل ثقافة موسيقية واسعة، مُطّلعاً على مستجدات المشهد الموسيغنائي العراقي والعربي. هذا ما أهله لأن يضع الكثير من المقدمات الموسيقية للمقامات العراقية التي كانت تخلو منها. وبهذا، فتح الباب على مصراعيه لظهور ما يمكن أن نسميه الأغنية المتقنة، وهي بالتأكيد غير البستنة.

أدخل صالح آلتي الناي والتشيلو على التخت الشرقي حين وجد أن لهما دوراً كبيراً في تطوير أداء الفرقة الجمالي. وكان الفنان محمد القبنجي قبله قد أدخل آلة القانون لتحل بدل آلة السنطور، والكمان لتحل بدل الجوزة. وهكذا اكتمل في عهد صالح الشكل الأساس للفرقة الذي يسمح كثيراً للتطور في ما بعد؛ أي كما هو حال الفرق الموسيقية التي بات عددها يفوق الخمسين. وليس هذا فحسب، بل إن صالح الكويتي يعتبر أول مؤسس لمعهد غير حكومي تدرس فيه الموسيقى الشرقية في العراق.

ولمكانة صالح الموسيقية بين أقرانه من الفنانين، اختير ليضع الموسيقى التصويرية لأول فيلم عراقي، اسمه "عليا وعصام". وبهذا وضع الأسس الموسيقية لمفهوم الموسيقي التصويرية، وهي بطبيعة الحال تحتاج إلى ثقافة سينمائية موسيقية.

يحسب لصالح الكويتي أنه أول من بادر بعملية التدوين الموسيقي للأغاني والبستات وكذلك المقام العراقي والأبوذيات، رغم وقوف الكثير من الموسيقيين المغنين ضد عملية التدوين، لأنهم يعتبرون ذلك ضياعاً للروح الشرقية في الفعاليات الموسيغنائية، وهي مشكلة قائمة حتى اليوم.

إلى جانب ذلك، كان صالح الكويتي فناناً داعماً، بل ومكتشفاً للأصوات والمواهب الجديدة. فبعد أن أصبح المشرف على إدارة الفرقة الموسيقية في ملهى "أبو نواس"، أخذ يقدم لهؤلاء الشباب والشابات فرص العمل فيه.

المساهمون