تعالوا نُصنّع "هولوكوست"(نا)

تعالوا نُصنّع "هولوكوست"(نا)

23 اغسطس 2015
+ الخط -
استخدم بعضٌ من نخبة الشيعية السياسية في العراق، في التسعينيات وأوائل هذا القرن، تعبيرَ هولوكوست "المحرقة"، في محاولة لتقليد الشغل اليهودي الناجح. أرادوا أن يثبُتَ في عقول الناس أن هولوكوستاً شيعياً حصل على أيدي صدام حسين والسنّة العرب. لم ينجح الأمر، لأن الشيعة السياسية صارت سلطة وحكماً عضوضاً فور سقوط صدام. صار من المحال إخفاء الأنياب الحادة لحكم الشيعة السياسية في العراق، ففشلت خطّة صناعة هولوكوست شيعي، والاتجار بها.
تجري، الآن، محاولة أخرى لصناعة هولوكوست كردي. قليل جداً من النخبة الكردية السياسية والثقافية هم الذين لا يستخدمون هذا المصطلح. وفي الصحافة ووسائل الاتصال الاجتماعي ما يدل على ما يشبه التخطيط لإغراقها بمصطلح "الهولوكوست الكردي". فهل ينجح؟
يرى نعوم شومسكي أن اليهود تجاهلوا المحرقة (الهولوكوست)، بعد الحرب العالمية الثانية نظراً للحرب الباردة، ولدخول ألمانيا في حلف الأطلسي. وكان أن انتبهت النخبة اليهودية المالية والسياسية، وكذلك الحكومة الأميركية، إلى الأداء الفاعل والخاطف للجيش الإسرائيلي في 1956 واحتلال سيناء. قبل ذلك، كانت إسرائيل تعتبر دولة اشتراكية (!) تلقى عناية أوروبا أولاً، والدول الاشتراكية ثانياً. وفي 1967 هزمت إسرائيل العرب، وظهر أن النصر الإسرائيلي، وإسرائيل نفسها، يمكن أن يلعب دوراً في إعلاء دور النخب اليهودية في أميركا، وتوظيف الأمر كله في الحرب الباردة، وبذلك، تصعد النخبة اليهودية الأميركية أكثر وأكثر. وبالفعل، صار واضحاً أن الصحافة والسينما شرعت في توظيف الهولوكوست. وعندما جاءت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، كانت صناعة الهولوكست والاتجار بها قد تقدمت كثيراً، وصار يمكن توسيعها وتوظيفها في السياسة والثقافة والمال. وصار ابتزاز الشعوب والحكومات في أوروبا وأميركا بالمحرقة، وخصوصاً ألمانيا، أمراً مربحاً في كل شيء، وطاغياً لا سبيلاً لتجنّبه، أو الانتقاص منه. حدثت المحرقة اليهودية، فعلاً، ولا مجال للنكران. الإشكال والضرر هو في تحويلها إلى صناعة وتجارة، تستفيد منها إسرائيلُ والنخبُ اليهودية في أنحاء العالم.
يستحق الأكراد، وقبلهم الشيعة، أن يَشْكوا، وأن يحاولوا رفع شكواهم إلى مصاف محرقة، لكن الحاضر يقول إن "محرقة" واقعية تجري للعرب السنة في العراق وسورية، في العراق بعد سقوط بغداد، وفي سورية منذ الثمانينيات. "محرقة" معقّدة الجوانب، موضوعها العرب السنة، والفاعلون في تطبيقها حلف "أقليات" بقيادة إيران وروسيا. والأنكى أن "الضحية" نفسها، وعبر نخبها، أعطتْ المبررات بمنح الإرهاب، مُـمَثّلاً في القاعدة وفروعها، حاضنةً. جرتْ شيطنة العرب السنّة، وجرى الشغل على أن ينظر العالم إلى حياة العربي السني بأنها أقل قيمة من غيرها، وصار يمكن إبادتها من دون كثير وجع ضمير، وبراميل الأسد خير مثال. ويمكن أخذ ما حدث لليزيديين مثالاً مضاداً على كيفية صنع التعاطف، ورفع الحدث إلى مصاف هولوكوست. ما حدث حقيقي وكبير، وعار على المتطرفين العرب السنة. ولكن، لنتأمّلْ الصورة التالية: انسحبت البشمركة بتخطيط، وبهدف أن تحصل مجزرة، وطائرات الهليوكبتر المنقذة للمعلّقين في الجبال كانت تحمل صحفيين وسيناتورات أميركيين عديدين، حتى إن مُــنقذين كثيرين لم يجدوا مكاناً. كانت عملية استعراض واضحة، تهدف إلى القول إن مذبحة حدثت وتحدث، وهذي هي الكاميرات تلتقط الصور، ويشهد على ذلك رجالُ سياسةٍ مهمّون وذوو مصداقية. هكذا يُصنع "هولوكوست" رخيصٌ ويُتاجر به.
لن يُكتب النجاحُ، حتماً، للادعاء أن هولوكوستاً عربياً سنياً يجري. فالهولوكوست يلزمه قابلية التوظيف والتصنيع والتجارة، إضافة إلى قوة منظمة تحمله، وحدّ أدنى من قضية محقّة انْشغَلَ عليها، وقوى دولة كبرى تدعم.
هناك احتمال أن ينجح الكرد، نسبياً، في هذه الصناعة. فهم أكثر تنظيماً، على الأقل في نخبتهم الساعية إلى الصناعة والاتجار، وقضيتهم قابلة للتوظيف الغربي ضد دولٍ، في عمومها، معادية للغرب، و للكرد قضية محقة، مهما قِيل فيها. عندما نفهم هذا كله يصير للقول العامي "إسرائيل ثانية" معنى. ليس من باب استسهال "الإدانة"، وإنما من باب الشغل الناجح وإقناع مراكز القرار الدولية بالوظيفة.
في الشرق الأوسط الحزين، لكل الشعوب قصصها و"هولوكوستات"ها. ولكن، حتماً هناك صناعة أصلية وصناعة تقليد.




دلالات