ماذا خسرت السعودية في اعتقال سلمان العودة؟

ماذا خسرت السعودية في اعتقال سلمان العودة؟

29 يناير 2019
+ الخط -
لا يقوم أصل هذا الموضوع على أن الخسارة المقصودة تخص الدولة السعودية، بل الأمر أوسع منها بكثير، غير أن الخسارة أعمق في جسد الدولة والمجتمع معاً، في ظل ما يتعرّضان لها من اضطراباتٍ فكريةٍ عميقة، وسياسيةٍ حادة منذ صعود الحكم الجديد، والذي انتهج خطةً جنونية، في المواجهات الداخلية وخريطة القمع، وفي إدارته الأزمة الخليجية التي كانت موجّهة لاجتياح قطر.
يعيش العالم الإسلامي اليوم حالة اضطراب واسعة، في تحديد معالم رسالته الفكرية، تقوم على إشكاليتين، الأولى ما يتعرّض له من اعتداءاتٍ وانحيازاتٍ خارجيةٍ كبرى، سواء كانت هيمنة بنوازع استعمارية أو خلفيات أيديولوجية، بصراعات سياسية أو مصالح إمبريالية متوحشة. والثانية هي الأزمة الذاتية التي من بوابتها تعمقت جراحات، وكوارث الشرق الإسلامي. وأول معضلات هذه الأزمة أن العالم الإسلامي افتقد مرحلةً زمنيةً طويلة، لصناعة خطاب النهضة والاعتدال الذاتي غير المشروط لصفقات الأنظمة المستبدة والغرب، وتكييف الحالة الشعبية في كل وطن، لقبول المنتج الغربي، الموائم لصناعة الاستبداد، ولو ترتّب عليه إلغاء مفاهيم إسلامية، وصرف الشعوب عن التقدم المدني الذي يقوم على التكافل الوطني الاجتماعي، والصناعة الفكرية الاجتهادية لنهضته، والضمان الدستوري الذي يكبح تغوّل الاستبداد على المواطنين.
ومن خلال هذه المنظومة، وإعادة بعث خطاب الأخلاق الإسلامي، القائم على كرامة الفرد، لا محاربته أو قمعه المباشر لمجرد رأيه، تبدأ معالم الوعي الإسلامي الجديد بالانتشار. وعبر هذا الوعي، تنخفض تأثيرات خطاب الغلو، والمجموعات الوظيفية التي تتخذ من السلفية المتشدّدة
 وعاءً لتكريس التطرف، وتعزيز التباين بين الشعوب ذاتها، ورفض لغة الحوار بين الشباب أنفسهم، في أمور المعتقدات والسياسة والاجتماع.
هذا الضغط المتزايد منذ عقود، والذي نشأ مبكّراً منذ قيام الدول القُطرية العربية، والصراع بين الفكرة العلمانية والإسلامية، تعمّق من خلال استغلال نُظم الاستبداد للفكرتين. ولكن التغول في الحالة السعودية كان عميقاً، فنُصّب الدين الوظيفي ترساً للقمع، طوال هذه الفترة، منذ المواجهة ما بين النظام والقوميين واليساريين، حتى مواجهته، مع الإصلاحيين الإسلاميين التقدميين والديمقراطيين، وحتى مع التشدّد الذي خرج من عباءته، لكنه تمرّد على الحكم.
هنا شكّل خطاب الشيخ سلمان العودة فارقاً فكرياً واجتماعياً كبيراً، قرّب له فئاتٍ متعدّدة من الشعب وأطيافهم وأقاليمهم. وعلى الرغم من أنه عمل تاريخيا على هذه التفرقة ولا يزال، إلّا أن النظام تعرّض لمرحلة فراغ ضخمة، واضطراباتٍ واسعة، تقذف اليوم حممها وانفجاراتها، ولم تمنعها كل الأموال التي قُدمت للرئيس الأميركي، ترامب، والمصالح الغربية وإعلامها.
كان الشيخ العودة يمثل خطابا أصلياً للمجتمع، وخصوصا مناطق العصبية للنظام في إقليم نجد الكبير، وفي الوقت نفسه، كان له قبول واسع من بقية المناطق، ومن الأطياف الفكرية والمزاج الشعبي العام الذي يُحب التدين الروحي والأخلاقي، ويكره التعصب، في ظل هيمنة الوعّاظ، الذين انقلب عليهم العهد الجديد اليوم، بعد أن كانوا حلفاءً تاريخيين له.
وعلى الرغم من أن الشيخ سلمان العودة آمن ودعم معنويا رسائل الحريات، والتوافق الدستوري لدولة العدالة الاجتماعية التي بعثتها حركة الربيع العربي، إلا أنه، وفي حديث مباشر معي، كان يرى أن المساحة الأخلاقية والاجتماعية، والخطاب الروحي التربوي الذي سجل له حضوراً كبيراً في الشرق والمهجر، هي المهمات الرئيسية له، وإن ظل إيمانه بأولوية العدالة السياسية قائماً. وهنا تبرز أزمة النظام، في ظل تعطش الشعب لخطاب التوازن الاجتماعي، والحرية الفردية وقيم الروح الإسلامية، وقلقه واضطرابه من قرارات الانفتاح التي جاءت تحت سياط قمع شامل للإسلاميين والديمقراطيين والحقوقيات النسوية. وبدلاً من أن يترك مساحة للناس، لتأمين حدٍّ أدنى من الاستقرار الاجتماعي، استهدف أكبر منابر الاعتدال والخطاب القيمي الروحي.
ليس بالاعتقال وحسب، ولكن بتعمّد الإهانة المتوحشة للشيخ سلمان العودة، وهنا الخسارة باعتقال منبر الاعتدال لا تقف عند مساحة المجتمع السعودي، وإنما تتوسّع إلى أن تتحول إلى دعم بنية التطرّف ضد السلام العالمي، وهذا يمثل خسارةً للنظام نفسه، حين يستيقظ على حصاد 
سياسته. وبالطبع، لا يعني واشنطن ذلك، بقدر ما يعنيها تدفق الأموال لصالحها، وإن دَفع الثمن الضحايا من كل دين وبلد.
لم نعد اليوم نجد أي مساحةٍ يعي فيها هذا النظام مثل هذه الرسائل، ولا ندري إن كان سيستيقظ أم لا، والخطورة هنا أن هذه السياسات لا تخرج آثارها اليوم، بل هي بناءٌ تراكمي يتعمّق في الأجيال، فعلى سبيل المثال أنصار السلفية الحركية في المملكة، وخصوصا أبناء التيار السروري، مثّل لهم الشيخ العودة الطريق الثالث، وبالفعل خرج فيهم وبينهم من يؤمنون بقيم الاعتدال والمدنية، غير أن هذا القهر والاعتقال الواسع الذي يشمل أغلب رموزهم، الإصلاحية المحافظة كالشيخ عبد العزيز الطريفي، والقيادية الاجتماعية كالشيخ ناصر العمر، هي رسائل تجتاح وجدان هذا الشباب، هذا فقط على مستوى التيار السروري الواسع.
ومهما استقطب النظام بمشروعه إعادة توظيف المذهب الوهابي، وهي قضيةٌ تكرّرت في تاريخ الدولة السعودية، منذ المصادمة مع الإخوان البدو، في معركة السبلة، بعد توظيفهم ضد سُنّة الجزيرة العربية، بغرض توسيع دائرة الدولة السعودية، فإن مساحة الغبن تتسع في قواعد أخرى، في ظل غياب الحريات والتعبير عن الرأي.
وليست المسألة في انفتاح وطني لمساحة الفنون والآداب والمسرح وغيرها، فهذه متطلبات إنسانية، لكن المشكلة في بعثرتها في فوضى مضطربة، وجعلها كأنها ترسٌ استفزازي، لمجتمع ينتقل فجأة من دعم الداخلية السعودية عصا الواعظ عقودا طويلة إلى سوط وسجن وقتل باسم الانفتاح، كما جرى مع الشيخ أحمد العماري، وهو من رموز التيار، وشخصيات سراة غامد وزهران في تهامة، فهل يعي الحكم السعودي، ومن يدفعه إلى ذلك أي أرضية يصنع لعالم الغد.