مجزرة غزة: فلسطين تتحدّى النكبة وحيدةً

مجزرة غزة: فلسطين تتحدّى النكبة وحيدةً

15 مايو 2018
وصل عدد الشهداء إلى 58 (عبد الحكيم أبورياش)
+ الخط -


كان مشهداً أقرب ما يكون إلى يوم القيامة أمس على الأرض الفلسطينية المحتلة، في الذكرى السبعين لنكبتها وقيام دولة الاحتلال عليها. مجزرة بعشرات الشهداء وصلوا إلى 58 شهيداً، وآلاف الجرحى، ارتكبتها إسرائيل في غزة التي أرادت وحيدةً تحدي النكبة والاحتلال والحدود التي فرضها، فشاهد العالم مباشرة على الهواء ساعات الجريمة من دون أن يصدر موقفاً جدياً واحداً جدياً عربياً طبعاً ولا عالمياً، ذلك أنّ أناقة الاحتفال في القدس المحتلة، في مقر السفارة الأميركية التي افتتحت أمس بعدما نقلت من تل أبيب، سحبت الاهتمام الإعلامي والسياسي. وحيد كان قطاع غزة أمس حرفياً، فلا الاستنفار الأمني في القدس المحتلة والضفة الغربية المحتلة والمحاصرة في آن، ولا ما استبق اليوم المنتظر من اعتقالات وعنف استباقي، سمحا بتنظيم حركة كبيرة لمنع افتتاح السفارة الأميركية وتنفيذ برامج مسيرات العودة مثلما كان مقرراً، لتقتصر التحركات الغاضبة في الضفة والقدس على محاولات شعبية لكسر الطوق الأمني الرهيب في الضفة والقدس، بينما لم يتمكن الاحتلال من الحؤول دون تنفيذ البرنامج الموضوع سلفاً في القطاع، فما كان أمام جيشه إلا استخدام كامل ترسانته بالرصاص وصواريخ الطائرات، لقتل من قتل، وإعطاب من أعطب، وإخافة من كان مصمماً على تحدي الموت والتوجه نحو الشريط الشائك حيث الاستشهاد المؤكد أو الإعاقة الدائمة محسومة. 


وبالفعل، حتى عصر يوم أمس، كان عدد الشهداء يزيد عن الخمسين، فضلاً عن الآلاف من الجرحى من بين عشرات الآلاف من الغاضبين الذين حاولوا اجتياز حدود الاحتلال بكل وسيلة. أما على الصعيد الرسمي في الضفة الغربية، فما كان أمام منظمة التحرير إلا إعلان الحداد والإضراب العام اليوم الثلاثاء حداداً على شهداء غزة وتسجيل مواقف مكررة عن تجديد رفض السلطة الجلوس مع أي مسؤول أميركي في إدارة دونالد ترامب، فضلاً عن وصف الرئيس محمود عباس السفارة في القدس بأنها "مستوطنة أميركية". وفي القدس، استفاق الفلسطينيون على اعتداءات بالجملة من المستوطنين على ممتلكاتهم وشبابهم ممن حاولوا تنظيم أنفسهم للتظاهر أمام المقر الجديد للسفارة الأميركية، رغم أن منع الاقتراب شمل مسافة تبعد كيلومترات كثيرة من مقر السفارة. رغم ذلك، خرجت تظاهرة كبرى بالقرب من المقر، جنوب القدس المحتلة وسط انتشار مكثف لقوات الاحتلال الإسرائيلي. وأفاد ناشطون لـ"العربي الجديد" بأن قوات الاحتلال منعتهم من الوصول الى مقر السفارة بواسطة الحافلات التي كانوا يستقلونها، ما اضطرهم إلى السير على الأقدام. وشارك في التظاهرة العشرات من ممثلي القوى الوطنية ولجنة المتابعة العليا في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948. وخلال تقدم التظاهرة، قمعت قوات الاحتلال بعض المشاركين فيها وصادرت أعلاما فلسطينية كما اعتدت بالضرب على مشاركين آخرين بينهم نساء. واعتقلت شرطة الاحتلال عددا من المتظاهرين بينهم رئيس حزب الوفاء والإصلاح في الداخل الفلسطيني الشيخ حسام أبو ليل، والشيخ أحمد أبو عجوة من مدينة القدس. وجرت التظاهرة قبالة المبنى الذي أُجريت فيه مراسم افتتاح السفارة الأميركية في حي أرنونا في الشطر الغربي من القدس المحتلة.

وفي كافة مناطق الضفة الغربية، تعرض العشرات من المتظاهرين لكافة أشكال عنف الاحتلال من رام الله إلى نابلس فالخليل والبيرة وطولكرم وبيت لحم فأريحا وغيرها من محافظات الضفة ومدنها وقراها. وكان إحصاء أعداد الشهداء في غزة مهمة صعبة أمس على وزارة الصحة في القطاع، إذ كان عدد القتلى برصاص قناصة الاحتلال يرتفع على مدار الدقائق منذ ظهر أمس. وكان واضحاً أن الاحتلال يترجم حرفياً تهديداته بأنه سيتعاطى مع أي نشاط على الحدود، كأنه "عمل حربي"، رغم علمه بأن عشرات الآلاف المحتشدين كانوا من المدنيين بلا استثناء، ورغم ذلك فإنه استهدفهم بالرصاص، ومتى خشي أن تفلت الحدود من سيطرته أخرج طائراته لتقصف مواقع قريبة من الحدود، في يوم "المذبحة الرهيبة" في غزة بحسب مصطلحات الحكومة الفلسطينية. ومن تابع النقل التلفزيوني المباشر لفعاليات يوم أمس على حدود غزة، شاهد مجزرة مكتملة الأوصاف، إذ كان الفلسطينيون يتساقطون أرضاً حتى ولو لم يحاولوا اجتياز الحدود.

وجاءت المواقف العربية لتعكس الانهيار العربي، حتى في توصيف المجزرة التي تصبح "عنفاً" في مصلطلحات دول عربية حليفة لإسرائيل أو "قوة مفرطة" مثلاً. وقالت وزارة الخارجية المصرية إن مصر أعربت عن "إدانتها الشديدة" استهداف المدنيين الفلسطينيين وتحذر من "التبعات السلبية" لمثل هذا التصعيد. كذلك، دانت الحكومة الأردنية "القوة المفرطة" التي استخدمتها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة. ودعت الكويت إلى جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي اليوم الثلاثاء، وذلك بصفتها ممثلة لكتلة الدول العربية في مجلس الأمن. أما تركيا، فاعتبرت أن الولايات المتحدة شريكة لإسرائيل في المسؤولية عن "المجزرة" في غزة. ومثلما كان متوقعاً، اعتبر البيت الأبيض أن لإسرائيل "حق الدفاع عن النفس" في وجه "إرهاب حماس". ومن موسكو، اعتبر وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف أن "إسرائيل ترتكب مجزرة بدم بارد بحق الفلسطينيين"، مشيراً إلى أنه "من المخجل حدوث ذلك بينما يحتفل ترامب بالسفارة وحلفاؤه العرب يصرفون الانتباه". وطال صمت عواصم الغرب قبل أن تدين أو أن تعلق على المذبحة بمصطلحات ناعمة تساوي فعلياً بين الجلاد وبين الضحية، مثلما أوحت مواقف باريس ولندن وعدد آخر من المواقف الأوروبية التي دعت، بخجل، "كافة الأطراف" إلى "ضبط النفس". في هذا الوقت، كانت منظمة العفو الدولية تعتبر أن "سفك الدماء على الحدود بين غزة وإسرائيل هو انتهاك مشين لحقوق الإنسان يجب وقفه فوراً.

وقد زحف الفلسطينيون إلى الحدود الشرقية من قطاع غزة، من دون توقف، وصولاً إلى حشدٍ جماهيري غفير شهدته نقاط التماس الخمس مع الاحتلال، وهو الأكبر منذ انطلاق فعاليات مسيرة العودة الكبرى في الثلاثين من مارس/ آذار الماضي، في حين يأمل الغزيون بأن تعود عليه هذه التضحيات بنتائج إيجابية على الأقل لناحية كسر الحصار المفروض على القطاع منذ 11 عاماً. وبدا المشهد أشبه بحجيج فلسطيني نحو حدود غزة، وصولاً إلى تجمعٍ حاشد أمام السياج الحدودي الفاصل على طول المناطق الشرقية من قطاع غزة، والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. ووسط هذا المشهد، كانت أمنيات المشاركين تذهب نحو العودة إلى أراضيهم المحتلة، والتي هُجر منها اللاجئون قسرًا وسط مجازر إسرائيلية. ويتطلع الفلسطينيون في تجمعاتهم وتظاهراتهم الحاشدة أمام أنظار جنود الاحتلال المتسترين خلف السياج الفاصل، إلى حدوث تغيّرات جذرية في كل مناحي حياتهم، بعد أن قدموا سلسلة من الفعاليات السلمية التي ترمز إلى حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم، منذ ذكرى يوم الأرض، بينما واصل الاحتلال محاولة كَبح خطواتهم بكافة أشكال العنف.


وعلى الحدود، ناور المدنيون العُزل جنود الاحتلال، في محاولة منهم لتجاوز السياج الفاصل الذي يَحرسه قناصة إسرائيليون، مدججين بشتى أنواع الأسلحة، بينما كان الأخير في انتظار كل فلسطيني يُحاول التقدم مترًا واحدًا إلى الأمام. لكنّ الفلسطينيين لم يستسلموا لأصوات الرصاص وقنابل الغاز التي يُطلقها جنود الاحتلال تجاههم، إذ تنقّلوا جماعات وجماعات شمالاً وجنوباً بحثاً عن نقاطٍ قد لا تُغطيها قناصة الاحتلال، بينما نجح بعضهم في تجاوز هذا السياج الذي لطالما عَزل الفلسطينيين عن مدنهم وقراهم وأراضيهم المحتلة. وآخرون تقدموا نحو السياج حاملين أعلاماً فلسطينية تُرفرف في وجه الاحتلال، ومن خلفهم هتافات تنادي "على القدس رايحين شهداء بالملايين"، لكن أسلحة الاحتلال تفننت في انتهاك صوت الحق الفلسطيني المُنادي بحقه في أرضه المسلوبة، وضربت المتظاهرين بالرصاص وقنابل الغاز. ولم تتوقف أصوات مُكبرات الصوت في مخيمات العودة المنتشرة في نقاط التجمع الخمس على الحدود الشرقية من قطاع غزة، والتي كانت تدعو إلى الزحف الجماهيري نحو السياج الفاصل، بل امتزجت مع أغانٍ فلسطينية ثورية، وأصوات التكبيرات، كما لو أنه مشهد النصر الذي يترقبه كل فلسطيني مكلوم في غزة.

ووسط هذه المشاهد، كانت حركة جيش الاحتلال واسعة خلف السياج الفاصل، في إطار محاولاته التصدي للفلسطينيين الذين يُحاولون اجتياز السياج الحدودي مع الأراضي المحتلة، كما فعل منذ بداية المسيرات، من خلال ممارسته كافة أشكال العنف ضد المتظاهرين ما أسقط عشرات الشهداء وآلاف الجرحى. وشهد يوم الغضب الأول 14 مايو/ أيار نشاطاً واسعاً للوحدات الشبابية الميدانية
المشاركة في المسيرات على طول الحدود الشرقية لقطاع غزة، والتي تتصدى لغطرسة الاحتلال واستهدافه المدنيين بوسائل بدائية، ومن هذه الوحدات كانت: "الكاوتشوك" و"المقلاع" و"القواطع" و"الأطباق الطائرة" و"الليزر". في حين لم تتوقف أبواق الإسعاف داخل مخيمات العودة، تزامناً مع حالة التوتر التي تشهدها حدود غزة وتعمّد الاحتلال استهداف المدنيين، كما أن أعمدة الدخان تصاعدت على طول الشريط الحدودي، وحتى أن بوق "الخطر" انطلق في نقاط التجمع الخمس، تعبيرًا عن حالة الطوارئ والاستنفار إيذانًا ببدء ذروة الفعاليات. وامتزجت حالة الطوارئ بزحفٍ فلسطيني واسع نحو الحدود، مُحملين بالحقائب كما لو أنهم يُريدون التخييم إلى حين العودة إلى أراضيهم المحتلة. مشهدٌ يؤكد أن الفعاليات وصلت إلى ذروتها، تزامنًا مع ذكرى النكبة الفلسطينية التي تُصادف غدا الثلاثاء، وإجراءات نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة.


وفي الميدان، كانت التجهيزات الطبية وعمليات التنظيم الميداني على أهبة الاستعداد، في إطار توقعات وزارة الصحة الفلسطينية استقبالها الكثير من الإصابات جراء تزايد وتيرة الاستهداف للمتظاهرين من قبل الاحتلال، حتى أنها أقامت مراكز صحية ميدانية لاستيعاب الأعداد الكبيرة. وشهدت حدود غزة انتشارًا واسعًا من الكوادر الصحافية المحلية والدولية، حتى أن القطاع شهد وصول عددٍ من الصحافيين الأجانب خلال الأيام الماضية، والذين جاؤوا لتغطية مسيرة العودة الكبرى، في ظل اهتمام دولي بما قد تؤول إليه المسيرات المستمرة على الشريط الحدودي في غزة. وعلى المفترقات الرئيسية لمدينة غزة، كان الزحف الفلسطيني مستمرًا نحو الشريط الحدودي، وسط أهازيج فلسطينية ودعوات غاضبة إلى الخروج نحو السياج الفاصل تُطلقها مكبرات الصوت في الشوارع والمساجد، تزامن ذلك مع حالة إضراب تجاري خيّم على أجواء المدينة المحاصرة إسرائيليًا للعام الثاني عشر على التوالي. وبدا المشهد متوتراً وعصيباً على وجوه الفلسطينيين الغاضبين على أوضاعهم وأحوالهم التي ازدادت سوءاً في السنوات الأخيرة، في وقت يتطلعون لهذه المسيرات أن تحصد لهم حياةً جديدةً بعيدة من كل أشكال الحصار الممارس ضدهم، والأزمات التي عصفت بأحوالهم ووضعتها تحت نقطة الصفر. كما انتشرت قوات الأمن وحفظ النظام على مفترقات وشوارع مدينة غزة، تسهيلاً لحجّ الفلسطينيين المستمر نحو الشريط الحدودي، ويخترق ذلك أصوات الإسعاف الذي لا يتوقف عن نقل الجرحى الذين لا يزال الاحتلال يُمعن في استهدافهم من أجل الوصول إلى إفشال كل محاولات الفلسطينيين بتغيير أوضاعهم والعودة إلى أراضيهم المحتلة.