برلمانات العالم تتأقلم مع الوباء: طيّ صفحة التقاليد العريقة

برلمانات العالم تتأقلم مع الوباء: طيّ صفحة التقاليد العريقة

17 مايو 2020
تقلّص الحضور في برلمانات العالم (آيريس أويكونومو/ فرانس برس)
+ الخط -
الحاجة أمّ الاختراع. بهذه العبارات، علّق رئيس مجلس العموم البريطاني ليندسي هول، في مقالة مطولة في موقع "مؤسسة ويستمينستر للديمقراطية"، حول عمل البرلمان البريطاني خلال أزمة تفشي فيروس كورونا، بعدما "دخل هذا البرلمان التاريخ"، على حدّ قوله، في 22 إبريل/نيسان الماضي، بعقده أولى جلساته الافتراضية في زمن الوباء. وفيما قد يكون الأرجح، أو الأكثر بديهية لدى البعض، التقليل من صعوبة الاجتماع "افتراضياً" في القرن الواحد والعشرين، في ظلّ وسائل التكنولوجيا المتوفرة، والمتاحة، في معظم دول العالم، يبدو الأمر بالنسبة لـ"أهل البيت" أكثر حساسية. يقول هول إن مجلس العموم البريطاني ظلّ يعمل بطريقة أو بأخرى بالنمط ذاته منذ 700 عام. هكذا، يبدو تبديل العادات في الديمقراطيات العريقة، بين ليلة وضحاها، مهمةً شاقة، فرضها ظهور الوباء القاتل، الذي أسّس لقاعدة التباعد الاجتماعي، وغياب التفاعل الجسدي، والنقاشات المحتدمة. وليست بريطانيا وحدها من استعاض برلمانها عن الاجتماعات "الحقيقية"، إذ إن أغلبية مجالس الشعوب حول العالم اختلقت لنفسها روتيناً جديداً، تفاوتت نسب التباعد الاجتماعي فيه بين بلدٍ وآخر، لكنها جميعاً غيّرت من عادات وتقاليد وأنماط تصويت، قد تفرض معادلتها بعض الوقت.

وتخطت نسبة الوفيات في بريطانيا الـ33 ألفاً، وهي كلفة بشرية من الأعلى في القارة الأوروبية، لكن رئيس الوزراء البريطاني يعتزم إعادة البلاد قريباً إلى دورتها الطبيعية، ومنها التئام مجلس العموم بغرفتيه "التئاماً فعلياً" بحلول شهر يونيو/ حزيران المقبل، على الرغم من تحفّظ العديد من السياسيين. في هذه الأثناء، اشتكى كثير من أعضاء البرلمان من غياب "النقاش" و"أجواء العمل البرلماني" خلال اجتماعات جرت بتقنية الـ"فيديو لينك"، كما قلّص النشاط الافتراضي من قدرة ممثلي الشعب والمشرعين على المحاسبة، لا سيما محاسبة الحكومة، وكذلك التوصل إلى تفاهمات حول مشاريع قوانين، والتصويت بشكل خاطئ على بعضها.

وكان البرلمان البريطاني قد توقف عن الانعقاد في 25 مارس/ آذار الماضي، حتى 21 إبريل/ نيسان، بسبب عطلته، وظروف كورونا، ما جنّب الحكومة المساءلة حول إدارتها لانتشار الوباء. وبعد إجازة أطول من المتوقع، استأنف هذا البرلمان عمله عبر تقنية "الفيديو زوم"، مع السماح لـ50 من أعضاء مجلس العموم الـ650 فقط بالوجود في القاعة، فيما عقدت بعض الجلسات افتراضياً بكامل أعضائها، مع إصدار قرار بوضع نظام خاص بالتصويت وتطبيق إلكتروني لمتابعة عمل البرلمان. والأمر ذاته ينسحب بالنسبة لمجلس اللوردات.

وكان الهلع قد انتشر في بعض البرلمانات الأوروبية من إمكانية تسرب الفيروس إليها. في فرنسا، طرق كورونا مبكراً باب "الجمعية الوطنية" في قصر بوربون الباريسي، مع إصابة ثلاثة مشرعين في شهر مارس/ آذار الماضي بالعدوى، بالإضافة إلى عمال داخل مقر البرلمان، ما دفع البرلمان الأوروبي حتى إلى نقل لقاءاته في الشهر ذاته من مدينة ستراسبورغ شرق فرنسا إلى بروكسل. ومنذ تفشي الوباء، قلّص مجلس الشيوخ الفرنسي جلساته إلى واحدة في الأسبوع، كما قلّص إلى عشرة عدد الأسئلة الموجهة إلى الحكومة، والتي لا يحضرها سوى معدّو الأسئلة، ورؤساء المجموعات السياسية. كذلك تعقد ثلاث لجان اجتماعات افتراضية للاستماع للوزراء وتبادل الآراء، من دون إقرار تدابير معينة لنظام الاجتماع عبر الفيديو، بسبب عدم الحاجة إلى التصويت. كذلك فعلت الجمعية الوطنية عبر تقليص عدد اجتماعاتها، وعقدها افتراضياً. ولم تعقد لجان مجلس النواب أي اجتماعات لإقرار نصوص تشريعية، سوى لتمرير مشاريع قوانين مرتبطة بـ"كوفيد 19".

من جهته، لم يتحوّل البرلمان الإيطالي إلى العالم الافتراضي في ظلّ أزمة كورونا، واضعاً قوانين صارمة للتباعد الاجتماعي في داخله، فيما عمل معظم الموظفين من منازلهم. وفي سويسرا مثلاً، دعا مكتبا "المجلس الوطني" و"مجلس الولايات" (غرفتا الجمعية الفيدرالية) إلى أسبوع من الجلسات الطارئة بدأت في الرابع من مايو/ أيار الحالي، مسخرة لوباء كورونا، وعقدت في مركز برن للمعارض بدلاً من القصر الفيدرالي، لتوفير شروط السلامة الصحية والنظافة والتباعد الاجتماعي.

أما البرلمان الأوروبي، فقد وضع لجلسته العامة في 26 مارس/ آذار الماضي نظام تصويت عن بعد، للمرة الأولى في تاريخه.

وفي الولايات المتحدة، خالف مصطلح "كونغرس" معناه الحقيقي، أي الاجتماع والنقاش، للمرة الأولى منذ 231 عاماً، بعدما كان تمكن من تخطي تجارب حمى فيلادلفيا الصفراء (1793)، والإنفلونزا الإسبانية (1918)، واعتداءات الحادي عشر من أيلول 2001. وصوّت مجلس النواب الأسبوع الماضي، بأكثرية ديمقراطية، على التزام المشرعين منازلهم، والعمل عن بعد، حتى بهدف التصويت، طالما الأزمة المستمرة. ويجرى التصويت إما بتكليف المشرع لوكيل له داخل المجلس، أو عبر نظام إلكتروني آمن، أو عبر تقنية الفيديو كونفرانس. وقالت رئيسة المجلس نانسي بيلوسي، على الرغم من المعارضة الجمهورية، "إننا نفعل ذلك للإبقاء على حيوية ودينامية المجلس، وليس لمعارضة تقاليدنا". لكن الجمهوريين عارضوا التغييرات، واصفين إياها بمحاولة ديمقراطية للسطو على قرارات المجلس. ورأى دانيال شومان، مدير السياسات في منظمة "ديماند بروغرس" التي تدعو إلى الشفافية والمحاسبة في العمل الحكومي، في حديث لصحيفة "نيويورك تايمز"، أنّ "غياب النقاش والتداخل بين أعضاء البرلمان سيسرع في فرض أنماط للكونغرس الحديث، كانت أصلاً قد أسست لمركزية القرار بيد الأغلبية، خصوصاً رئيس/ أو رئيسة المجلس، على حساب اللجان والتحالفات بين الأحزاب".

وفي لمحة سريعة لعمل البرلمانات حول العالم، في زمن كورونا، قلّص البرلمان الإيراني، بعد إصابة عدد من نوابه بفيروس كورونا، اجتماعاته إلى حدودها الدنيا، معتمداً كذلك تقنية الفيديو، عند الإمكان. أما الاجتماعات داخل المقرّ فقد راعت ظروف التباعد الاجتماعي. وكذلك صوت البرلمان البرازيلي على إجراء يسمح بالاجتماعات عن بعد. وفي كندا، تأجل عمل مجلس الشيوخ حتى الثاني من يونيو/ حزيران المقبل، فيما كان اجتماع مجلس العموم في 20 إبريل/ نيسان الماضي، على أن يعقد جلسته المقبلة في 25 مايو/ أيار الحالي.

أما في العالم العربي، فقد افتتح مجلس النواب المغربي، الغرفة الأولى في البرلمان، بداية الشهر الحالي، دورته التشريعية الربيعية، في ظل ظروف استثنائية فرضتها حالة الطوارئ الصحية المعلنة في البلاد، وذلك باتخاذ تدابير وقائية تمثلت في الاتفاق على حضور عدد محدود من النواب، ما أثار جدلاً سياسياً، وحفيظة حزب "الأصالة والمعاصرة"، بعدما عمد المجلس إلى احتساب أصوات النواب الحاضرين من كل كتلة أو مجموعة، باعتبارها تمثّل جميع أصوات البرلمانيين الغائبين. كذلك اعتمد مجلس المستشارين، الغرفة الثانية في البرلمان، يوم الثلاثاء الماضي، تقنية التصويت الإلكتروني على مشاريع القوانين، في سابقة من نوعها في تاريخ المؤسسة التشريعية المغربية. وفي لبنان، عقد مجلس النواب الشهر الماضي جلسات تشريعية في مقر قصر الأونيسكو، عوضاً عن مقر البرلمان في وسط بيروت، للظروف الوقائية نفسها وتأمين قدر أكبر من التباعد الاجتماعي بين الحاضرين.

(العربي الجديد)