المقدسيون ومعركة البقاء... مصير معلّق بـ"البطاقة الزرقاء"

المقدسيون ومعركة البقاء... مصير معلّق بـ"البطاقة الزرقاء"

29 أكتوبر 2015
يعمل الاحتلال على تقليص الوجود الفلسطيني بالقدس(غالي تيبون/فرانس برس)
+ الخط -
تعيد تصريحات ومواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الأخيرة، بشأن تجريد عشرات آلاف المواطنين الفلسطينيين في مخيم شعفاط وكفر عقب، شمالي القدس المحتلة، حيث يقطن هناك أكثر من 80 ألف مقدسي، من أوراق الإقامة في القدس، التي تُعرف باسم "البطاقة الزرقاء"، الجدل حول المكانة القانونية لما يتراوح بين 320 ـ 350 ألف مقدسي يقطنون في داخل الحدود البلدية المصطنعة للقدس المحتلة. وهي حدود رسمتها سلطات الاحتلال بعد احتلالها للقدس في العام 1967 واستيلائها على مساحات شاسعة جداً من أراضي المقدسيين، بعدما ضمّت أراضي 28 قرية وبلدة فلسطينية كانت تقع في حدود محافظة القدس إلى سلطتها الإدارية، في حين أبقت السكان تحت سلطة الحكم العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية.

هذه التصريحات والمواقف المعلنة لرأس الهرم السياسي في دولة الاحتلال، والتي قد تتبلور على شكل مشروع قانون يقدم إلى الكنيست الإسرائيلي لإقراره رغم ما سيواجهه من اعتراضات وعوائق قانونية وسياسية، وما يفترض أن تثيره من مواقف محلية ودولية، تسلّط الضوء من جديد على المكانة والوضعية القانونية لمئات آلاف المقدسيين الذين يشكلون الآن ما نسبته 38 في المائة من أعداد سكان المدينة اليهود والعرب في شطري القدس المحتلة، على الرغم من كل المحاولات التي بذلت من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لتقليص نسبة الوجود الفلسطيني في القدس إلى أقل من 22 في المائة. وقد عمد الاحتلال إلى محاولة تحقيق هذه الاستراتيجية عبر سلسلة من الإجراءات والسياسات بدأت في مطلع تسعينيات القرن الماضي بسياسة ما يعرف بـ"سحب الهويات" أو "التطهير والطرد العرقي الصامت". وبلغت هذه الممارسات ذروتها في العام 1995، مع تسلّم حزب العمل الإسرائيلي حقيبة وزارة الداخلية.
تقدّر مراكز حقوقية فلسطينية، من بينها مركز القدس للحقوق الاجتماعية والمقدسية، أعداد المقدسيين الذين جرّدوا من حقهم في الإقامة بأكثر من 30 ألفاً، إما لأنهم يدرسون ويعملون في الخارج أو لأنهم يقيمون في أحياء وبلدات متاخمة للقدس لكن خارج حدودها البلدية، مثل: الرام، كفر عقب، ضاحية البريد، أبو ديس، العيزرية، حزما، عناتا وجبع. وهي مناطق مصنّفة تاريخياً ضمن حدود محافظة القدس.

اقرأ أيضاً: #انتفاضة_القدس.. الاحتلال إلى زوال

يتركز الانتشار الديمغرافي المقدسي في البلدة القديمة، حيث تقطنها قرابة 38 ألف نسمة، بعدما كان عددهم هناك يربو على الستين ألفاً، إضافة إلى الأحياء والبلدات المتاخمة للبلدة القديمة والتي تشكل امتداداً طبيعياً لها، ومصنفة إسرائيلياً مناطق تتبع لسلطة بلدية الاحتلال، مثل: سلوان، العيسوية، شعفاط، بيت حنينا، جبل المكبر، صور باهر، أم طوبا. وقد شكلت هذه المناطق في الانتفاضتين الأولى والثانية، وكذلك في الهبّة الشعبية الحالية بؤر مقاومة ومواجهة عنيفة مع الاحتلال، أبطلت إدعاءاته بما يسميه "القدس الموحدة" عاصمة إسرائيل والشعب اليهودي، كما بات يحلو لزعماء وقادة الاحتلال توصيفها.

يستعرض الباحث نزار أيوب، في دراسة نشرها موقع "جدلية" بعنوان "التطهير العرقي في القدس"، القيود التي فرضها الاحتلال على إقامة الفلسطينيين في القدس وكيف تدرّجت على مدى سنوات، مشيراً إلى قيام السلطات الإسرائيلية عقب احتلال القدس بتنظيم سجل لسكان القدس الفلسطينيين، فأدرجتهم ضمن فئة المقيمين الدائمين في إسرائيل، لكنها اشترطت عليهم أن يثبتوا أنهم يقيمون فعلاً في المدينة وأن يكونوا قد وُجدوا فيها في إبّان إجراء عملية التسجيل، ليُستثنى تلقائياً المقدسيون، الذين كانوا يقيمون في الخارج آنذاك، بمن فيهم كل من كان مقيماً خارج حدود بلدية القدس التي أقرتها وزارة الداخلية الإسرائيلية في يونيو/ حزيران 1967.
ووفقاً للدراسة نفسها، فإنه "منذ ذلك الحين بات كل فلسطيني يغادر القدس ويقيم في مكان آخر مدة طويلة نسبياً، سواء خارج حدود المدينة (الضفة الغربية وقطاع غزة) أو خارج البلاد، يواجه خطر فقدان حقه المتمثل في الإقامة الدائمة في المدينة". ويستند الاحتلال، بحسب الدراسة، إلى "قانون الدخول إلى إسرائيل لسنة 1974 يخوّل وزير الداخلية إلغاء الإقامة لأي شخص سواء أكانت مؤقتة أم دائمة. إضافة إلى ذلك، تنص المادة 11 (أ) من أحكام الدخول إلى إسرائيل على مبدأ فقدان الأشخاص للإقامة الدائمة في حالة الإقامة في دولة أجنبية مدة سبع سنوات أو الحصول على إقامة دائمة في بلد أجنبي أو التجنّس في بلد أجنبي".
ويشير أيوب إلى أنه في العام 1988 تم وضع معيار جديد، أطلق عليه "مركز الحياة"، من أجل استمرار حيازة المقدسيين على الإقامة الدائمة. وعلى هذا الأساس، أصبح وزير الداخلية الإسرائيلي مخوّلاً بسحب بطاقة هوية كل مقدسي يثبت أنه يعيش خارج المدينة، وأن مركز حياته ليس داخل حدود البلدية، حتى لو أقام أقل من سبع سنوات.

لكن سلطات الاحتلال لم تكتفِ بذلك، إذ عمدت إلى تطبيق هذه الإجراءات على نطاق واسع منذ العام  1995، عبر التشدد حيال الفلسطينيين المقيمين خارج المدينة، ووضع عراقيل عدة أمامهم لإسقاط حقهم في الإقامة فيها ومنعهم من العودة إليها، بحسب الدراسة نفسها.

ومن الإجراءات الإضافية التي يشير إليها أيوب، تطبيق مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية منذ سنة 1984، سياسات تمييزية تجاه المقدسيين الفلسطينيين تمثلت في حرمان كل شخص غيّر مكان سكنه إلى خارج "حدود البلدية" من مخصصات التأمين الوطني، وحرمت الأطفال الذين وُلدوا خارج حدود البلدية وفي الضواحي المتاخمة لها من المخصصات الاجتماعية كافة. 
بيد أن تطورات الأحداث في السنوات الأخيرة، ولا سميا عقب إقامة جدار الفصل العنصري داخل القدس ذاتها، تسببت في عزل 125 ألف مقدسي عن مدينتهم المقدسة، وباتوا في حكم المقيمين خارج حدودها البلدية المصطنعة رغم احتفاظهم حتى الآن ببعض الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية، كما يقول زياد الحموري، مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، ما يعني أن تصريحات نتنياهو الأخيرة بشأن تجريد هؤلاء مرة أخرى من حقوق إقامتهم لن تضيف شيئاً على الواقع الحالي الذي يعيشه هؤلاء، وما يتهدد مستقبل الآلاف من أبنائهم، في حال سحبت منهم بطاقاتهم الشخصية التي تمنحهم صفة الإقامة فقط وليس المواطنة.
المقدسيون مقيمون في القدس وليسوا مواطنين، حسب القانون الإسرائيلي، فيما تترتب عليهم قوانين يلتزمون بها وكذلك واجبات، بينما لا يتمتعون بحقوق من يملكون الجنسية "الإسرائيلية".

اقرأ أيضاً: تجّار شارع الواد صامدون رغماً عن الاحتلال

يصف مسؤول ملف القدس في حركة فتح، حاتم عبد القادر، التهديد الذي أطلقه نتنياهو بشأن تجريد عشرات آلاف المقدسيين من حقهم في الإقامة بأنه فقاعة لا تلبث أن تنفجر في وجهه. ويرى عبد القادر أنّ سياسة التهجير القسري التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967، والتي استهدفت مواطني القدس الفلسطينيين بصفة خاصة، لم تفلح على مدى السنوات الماضية من عمر الاحتلال في نفي الوجود الفلسطيني العربي الأصيل في القدس. ويضيف "لن تخيفنا هذه التهديدات أو ترهبنا، لكن تعزيز صمود المقدسيين في مواجهة غلواء التطرف الإسرائيلية هذه، يتطلب من السلطة الفلسطينية تبني استراتيجية وطنية شاملة تركز بالمطلق على دعم المقدسيين، وأن تفرض واقعاً على الأرض حتى لو أفضى إلى مواجهة الاحتلال الذي نجح في فرض واقع في القدس بات المواطنون يدفعون ثمنه من حياة أبنائهم، وحتى من مستقبل وجودهم".

وينتقد مسؤول ملف القدس في حركة "فتح" أداء الفصائل الفلسطينية في القدس، واصفاً إياه بالضعيف. وفقاً لعبد القادر، فإنّ ما تشهده المدينة في الآونة الأخيرة كان بمثابة انفجار على واقع المقدسيين تحت الاحتلال، وعلى شعورهم بخيبة أمل من أداء هذه الفصائل، "ما خلق هوّة كبيرة بينهم وبينها، ومع السلطة ذاتها، التي يتهمونها بالتقصير عن أداء واجباتها حيالهم".

وكان عبد القادر، الذي شغل منصب وزير القدس الأسبق في حكومة رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض، قدم استقالته من منصبه احتجاجاً على ما اعتبره عدم قيام السلطة بواجباتها كما يجب حيال المقدسيين الذين يعانون البطالة والفقر، ويتعرضون لسياسات ظالمة جداً، مثل هدم منازلهم، ومصادرة أراضيهم، والاستيلاء على عقاراتهم. ويرى عبد القادر أنه "في مقابل بضعة ملايين من الدولارات تنفق في القدس من قبل السلطة، نجد الاحتلال يضخ إليها سنوياً مئات الملايين... بل هناك ميزانية سنوية بقيمة 5 مليارات شيكل (قرابة 1.28 مليار دولار)، رصدتها حكومة الاحتلال لدعم الاستيطان في القدس".
هذا الغياب الواضح للسلطة والفصائل، ألقى بظلاله على العلاقة مع المواطنين في القدس الذين يعتزون بوطنيتهم وقوميتهم الفلسطينية والعربية، في وقت تحاول فيه القوى الوطنية والإسلامية في المدينة، على تواضع جهودها، أن تعزز العلاقة بين الطرفين بفعاليات وأنشطة مقاومة للاحتلال ومنددة بممارساته.
وخلال السنوات القليلة الماضية، تعاظم دور الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة بقيادة الشيخ رائد صلاح، في القدس من خلال سلسلة طويلة من برامج الدعم والإغاثة للعائلات المقدسية الفقيرة، وتلك المهددة من قبل الاحتلال بمصادرة عقاراتها أو هدم منازلها. يضاف إلى ذلك، الدور الكبير للحركة الإسلامية في الدفاع عن المسجد الأقصى وصيانته وترميمه، كما حدث في المصلى المرواني إلى جانب تقديم المساعدات المالية لتعليم أبناء المقدسيين. وهو ما دفع بقوى الفصائل الوطنية إلى تعزيز علاقتها الميدانية مع الحركة الإسلامية ورئيسها الشيخ رائد صلاح، وهي علاقة أكدها عبد القادر، مشيراً إلى أنه "في سبيل الدفاع عن القدس، نضم جهدنا إلى كل الجهود التي تصب في خدمة الهدف الوطني العام".
من جهته، يؤكد المحامي أحمد الرويضي، المستشار في ديوان الرئاسة الفلسطينية، أنّ "السلطة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس محمود عباس تضع كل إمكانياتها لدعم المواطنين الفلسطينيين في القدس المحتلة". ويضيف "القدس أولوية بالنسبة للقيادة والرئيس محمود عباس، سواء على المستوى السياسي والمعنوي، أو على مستوى الإمكانات المتاحة لديها. لكن في المقابل هناك حرب إسرائيلية على مدار الساعة تستهدف الوجود الفلسطيني برمته في القدس، ومحاولة إضعاف هذا الوجود، بحيث لا يتعدى حجم هذا الوجود الـ12 في المائة من إجمالي السكان، ولكي يحققوا هدفهم هذا يمارسون كافة أنواع القمع والبطش والملاحقة الاقتصادية، وهدم المنازل والاستيلاء عليها".
ووفقاً للرويضي، فإن "القيادة الفلسطينية تعمل على اتجاهات عدة، أولاً هي مع شعبها بالميدان في القدس، إضافة الى العمل على توفير بعض مقومات الصمود. لكن الأهم هو ما يقوده عباس على المستوى الدولي، حيث طلب الحماية الدولية ومحاكمة إسرائيل على جرائهما وخاصة جرائم الحرب في القدس".
أما على المستوى الجماهيري القاعدي، فإن الشعور السائد لدى المقدسيين حيال ما يصفونه بتقصير السلطة، تغلب عليه المرارة. وغالباً ما تُسمع انتقادات بهذا الشأن حتى من قبل قيادات مجتمعية ترى بأن السلطة مطالبة بما هو أكثر من الشعارات وعبارات الدعم، لأن الواقع الذي يعيشونه يتسم بالقسوة الشديدة، وبدون دعم فلسطيني يأتيهم من سلطتهم، ومن أمتهم العربية والإسلامية، فإنهم سيواجهون المزيد من سياسات التهويد والأسرلة. وقد يدفع هذا الأمر بالبعض منهم إلى ترك مدينتهم تحت وطأة الضغوط السياسية والاقتصادية الهائلة، كما يقول مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، زياد الحموري.
من جهته، يعتبر النائب في المجلس التشريعي، أحمد عطوان، أن التهديد بسلخ الأحياء الملاصقة للبلدة القديمة عن بعدها الفلسطيني المقدسي، يستوجب من جميع القوى الفلسطينية بما في ذلك السلطة، تبني استراتيجية قائمة على دعم صمود المقدسيين وتخصيص الموارد الكافية لذلك، ولا سيما أن "شعبنا يواجه عدواً شرساً يضع تهويد القدس واستلاب تاريخها هدفاً وأولوية".
ولا تلقى هذه الممارسات إلا إدانة محدودة داخل دولة الاحتلال. وفي السياق، دانت جمعية حقوق المواطن في إسرائيل بشدّة تصريحات نتنياهو حول دراسة إمكانية سحب الإقامة الدائمة من المقدسيين الذين يسكنون خلف جدار الفصل العنصري. وأكدت عدم وجود أي مسوّغ قانوني لمثل هذه الخطوة، معتبرةً إياها مرفوضة وغير أخلاقية، وتهرّباً من مسؤوليات الحكومة الإسرائيلية تجاه عشرات آلاف المقدسيين الذين سجنوا خلف جدار الفصل العنصري.
ويرى متابعون أن ما يجري في القدس اليوم، هو معركة كسر عظم، يحاول المقدسيون فيها أن يعززوا صمودهم وبقائهم وهم يدفعون الثمن من حياتهم وحياة أبنائهم. ووفقاً للمراقبين أنفسهم، فإن المقدسيين من سيقررون مصيرهم، كما سيقررون مصير الاحتلال ورأس هرمه، والذي يتصرف من وجهة نظرهم "بجنون يسبق سقوطه المدوي"، كما يعبّر عن ذلك جيل من الشباب المقدسي لم يعد خاضعاً لأي أجندة فصائلية أو حزبية.

اقرأ أيضاً: تحرك أميركي لاحتواء الهبّة الشعبية في الأراضي الفلسطينية 

المساهمون