تشريعيات تونس: خارطة سياسية جديدة وخزان انتخابي متحرك

تشريعيات تونس: خارطة سياسية جديدة وخزان انتخابي متحرك

10 أكتوبر 2019
حزب النهضة حظي بالتمثيل عن كل الدوائر (ياسين غيدي/الأناضول)
+ الخط -
كشفت الانتخابات التشريعية في تونس عن الخارطة السياسية الجديدة للأحزاب والقوائم الفائزة، بحسب الجهات والمحافظات، لتظهر توزيعا جديدا لخزان انتخابي ثابت وآخر متحرك غيّر المعادلة السياسية وخلق تيارات وقوى جديدة.

ثبات خزان النهضة

أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية، التي أعلنتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، أمس الأربعاء، ثبات الخزان الانتخابي لحزب النهضة، متصدر المشهد البرلماني بـ52 مقعداً، إذ تقدم في جهات الجنوب الشرقي، حيث حصد بمفرده ما يناهز 40% من الأصوات في محافظات قابس وقبلي ومدنين وتطاوين، ليفوز بـ4 مقاعد من جملة 9 في مدنين، و3 مقاعد في قابس، وفي محافظة تطاوين بمقعدين من جملة 4 مقاعد، ومقعدين في قبلي بالجنوب الغربي.

وبذلك يكون حزب النهضة قد حافظ على أكبر معاقله، مع تراجع طفيف تمثل في خسارته مقعدا لفائدة قوائم وتيارات إيديولوجية تشاطره الخطاب المحافظ.

ويستمد النهضة شعبيته من طبيعة محافظات الجنوب وسكانها المحافظين، إذ يميلون إلى الخطاب الديني، ويتبنون برامج الدفاع عن الهوية.

وفسر خبراء تصويت هذه الجهات بحسب انتماء قيادات النهضة التاريخية، الذين ترجع أصولهم إلى محافظات الجنوب، على غرار رئيس الحزب راشد الغنوشي المتحدر من محافظة قابس، والأمين العام للحزب والوزير السابق وشقيقه، علي العريض وعامر العريض، المتحدرين من محافظة مدنين.

وأكد أستاذ علم الاجتماع حسان موري لـ"العربي الجديد"، أن "التصويت يخضع إلى القرب الجغرافي والعائلي، حيث يعتبر النسب والقبيلة محددين خلال عملية التصويت، إذ يتجه الناخبون للتصويت لابن قريتهم والقريب منهم نسبا لضمان خدمة مصالحهم".


وأضاف أن "طبيعة الجهات وخصائصها تؤثر في الشريحة الانتخابية المستهدفة، إلى درجة أن البرامج تلغى وتنتفي من محافظة إلى أخرى، فلا يمكن توجيه الخطاب نفسه في الساحل إلى أهل الجنوب، أو إلى أهل الشمال الغربي، أو أهل الشمال الشرقي".

وفسر ذلك بقوله إن "الطبيعة الصحراوية تؤثر في الشخصية الانتخابية، والطبيعة الفلاحية والجبلية، أو القرب من البحر، فالأقرب إلى فهم شخصية الناخبين وإلى فهم لغتهم والتناغم مع حاجباتهم سيكون الأقرب إلى صناديق الاقتراع".

وجلب انتباه المتابعين حضور النهضة، الذي يعد الحزب الوحيد بلا منازع الفائز في جميع الدوائر الانتخابية الـ33، بما يجعله منفردا في تمثيل للتونسيين في جميع أنحاء العالم، سواء في 27 دائرة انتخابية داخل البلاد، أو دوائر الخارج الست، التي تمثل التونسيين المقيمين في 44 دولة.

ويمثل صعود النهضة في الخارج مفاجأة لمنافسيه، حيث حافظ الحزب على خزانه في الخارج، واستثمر فيه بعد الثورة، مستغلا سقوط حزب نداء تونس وتشتته، بعدما انتزع منه في 2014 مواقع كان يهيمن عليها منذ الثورة.

انحسار الأحزاب الدستورية

تمكن حزب النهضة من اختراق الخزان الانتخابي المحسوب على فلول التجمع، بدخول معقل العائلة الدستورية والبورقيببين، خاصة في محافظة المنستير، مسقط رأس الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، حيث تمكن الحزب من حصد ما يناهز 17% من الأصوات، ليفوز بمقعدين في محافظات الساحل، سوسة والمنستير والمهدية، متقدما على جميع منافسيه، في وقت كانت فيه هذه المناطق في 2014 نقطة قوة حزب نداء تونس والأحزاب الدستورية، حيث كانت تغطي أكثر من 60% من الأصوات بأكثر من 5 إلى 6 مقاعد للدستوريين والتجمعيين.

ويرجع الخبراء انحسار الأحزاب الدستورية لحساب النهضة إلى انفراط العقد الجامع برحيل الرئيس الباجي قايد السبسي، وانهيار حزب نداء تونس، ليجد الناخبون أنفسهم أمام خيارات صعبة وعشرات القوائم تتراسها شخصيات وقيادت سابقة في حزب نداء تونس.

لاعبون جدد

أظهرت نتائج الانتخابات الأولية التي أعلنتها الهيئة العليا للانتخابات صعودا بارزا للتيار الديمقراطي وحركة الشعب، اللذين تغذيا من سقوط وانهيار اليسار التقليدي والراديكالي، حيث سحب الحزبان من الخزان الانتخابي لائتلاف الجبهة الشعبية، الذي كان يضم 15 نائبا في 2014، ليجد نفسه ممثلا بنائب وحيد في 2019.

ويرى الخبراء أن التيار الديمقراطي وحركة الشعب ينهلان من خزان انتخابي متقارب يبحث عن العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات، ويقوم على مقاومة الفساد ومظاهره.

ونجح الحزبان في اكتساح دوائر انتخابية كانت معاقل لحزب العمال والوطد والطليعة ورابطة اليسار العمالي، التي غادرت المشهد البرلماني، لتفسح المجال لهذين الحزبين المحسوبين على العائلة اليسارية الاجتماعية، وعلى اليسار الوسطي أو المحافظين.

وقفزت حصة التيار الديمقراطي من 3 نواب إلى 22 مقعدا، ما بوأه المرتبة البرلمانية الثالثة، وجعله رقما صعبا في التحالف البرلماني والحكومي المقبل، كما قفزت حصة حركة الشعب بدورها من 3 نواب إلى كتلة هامة من 16 نائبا.

ويعتبر مراقبون أن التيار وحركة الشعب استثمرا سنوات المعارضة البرلمانية المؤسساتية وقدما بديلا انتخابيا ناجحا للتونسيين، طغى على منافسيهم من العائلة اليسارية والاجتماعية، التي أنهكتها الخلافات وأجهزت عليها الانشقاقات والهزات، ورسخت لدى الناخبين والرأي العام صورة مهزوزة.

وأظهرت نتائج الانتخابات صعودا بارزا لمكونات انتخابية وأحزاب حديثة تمكنت بسرعة من افتكاك جزء هام من الخزان الانتخابي المتحرك، حيث نجح حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة وتحيا تونس، التي تشكلت جميعها في الأشهر الستة الأخيرة السابقة للانتخابات، من افتكاك موقع برلماني.

ونجحت الأحزاب والقوائم الناشئة في العام 2019، في مقابل هزيمة أحزاب تاريخية وأخرى تقليدية يتجاوز تاريخها عقودا من الزمن، على غرار حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي وحزب القطب، وريثا الحزب الشيوعي التونسي، الذي تأسس زمن الاستعمار الفرنسي، إلى جانب حزب العمال الذي تأسس منذ الثمانينيات، وأحزاب مناضلة ظهرت زمن الاستبداد وعملت في سرية ولديها أنصار وقواعد مؤدجلة ومؤمنة بعقيدة الحزب ومشروعه، على غرار الحزب الجمهوري، وريث الديمقراطي التقدمي، وحزب التكتل وحزب المؤتمر، والتي وجدت نفسها جميعا خارج السياق الانتخابي، في وقت اكتسحت الأحزاب الوليدة المشهد.

قلب تونس والقروي

نجح حزب قلب تونس، الذي يتزعمه مرشح الرئاسة نبيل القروي، في التربع على المركز البرلماني الثاني بـ38 مقعدا.

وإن كان الخبراء متفقين على أن الحزب الفتي سحب من خزان حزب نداء تونس العليل، وتمكن من انتزاع إشعاعه الانتخابي، خصوصا في مراكز قوته في العاصمة والشمال الغربي.

وتمكن حزب قلب تونس، الذي تأسس في يونيو/حزيران الماضي، بسرعة من الانتشار على خارطة تغطي محافظة العاصمة الكبرى والساحل والشمال الغربي.

وبين المحلل محمد الغواري، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن قلب تونس تمكن من اكتساح الواقع الاجتماعي قبل الاكتساح الحزبي، مشيرا إلى أن "الانتشار الانتخابي انطلق من المعطى المجتمعي نحو المعطى السياسي".

وأوضح الغواري أن "خزان الحزب تغذى من محافظات الشمال الغربي والوسط الغربي، التي تعيش صعوبات اجتماعية وتفاوتا في مستوى العيش، مقارنة بجهات أخرى، حيث وجد الناخبون في برنامج تغيير مستوى العيش والقضاء على الفقر والجوع والأمية ملاذا مناسبا".


وذكر المحلل ذاته أن "قلب تونس حديث التكوين القانوني، ولكنه تمكن من الانغراس والتجذر من خلال الجمعية الخيرية والعمل الاجتماعي، وانطلاقا من الحضور الإعلامي، وتغلغل القناة المملوكة أو المحسوبة على صاحب القناة، بشكل جعل القروي حاضرا في الأذهان والوجدان مهما كانت اليافطة أو الحزب الذي سيعود به للناخبين"، ومشددا على أن "الناخبين صوتوا للقروي عرفانا له وليس للحزب الذي لا يعرفونه".

وأضاف الغواري أن "حزب القروي إعادة إنتاج مغاير لحزب السبسي في 2014، حيث صوت الناخبون لشخص رئيس الحزب وليس لرؤساء القوائم، التي حتى وإن لم تقم بحملة أو تتحرك فإن لديها رصيدا انتخابيا ثابتا في إطار شكل من أشكال التصويت (المفيد) أو (المنافس) الذي سيحدث التوازن مع النهضة".

ولفت المتحدث ذاته انتباه التونسيين إلى الصعود البارز لائتلاف الكرامة الانتخابي، الذي يجمع فسيفساء من الشخصيات والمرجعيات يحسبهم منافسوهم على "الثورجيين"، نسبة إلى الشوفينية الثورية والمغالاة في الثورية، ويحسبهم آخرون على "التشدد الفكري والإسلام المتطرف"، غير أن هذا التكتل حظي بمكانة هامة لدى الناخبين، وانتزع 21 مقعدا، ليكون القوة البرلمانية الرابعة رغم حداثة تكوينه.

واعتبر الغواري أن "ائتلاف الكرامة سحب من خزان النهضة الانتخابي، وتمكن من التأثير على جمهور الحزب الغاضب، بسبب مواقفه التي اتخذها في إطار التوافق مع حزب نداء تونس خلال سنوات الحكم، أو في إطار خيار النهضة فصل الدعوي عن السياسي".

وصوت الناخبون، أيضاً، لاختيار نواب ممن يعتبرونهم "حماة الثورة"، على غرار عماد دغيج، الذي كان يقود رابطة حماية الثورة، كما اختاروا مشائخ ودعاة وأئمة عرفوا خلال السنوات الماضية بمناهضتهم وتصديهم لـ"مقترحات مست الهوية"، على غرار قضايا المساواة في الميراث، ومسألة المثلية الجنسية، وإلغاء عقوبة الإعدام.