13 سنة من المصالحة الجزائرية: ملفات عالقة بالجملة

13 سنة من المصالحة الجزائرية: ملفات عالقة بالجملة

30 سبتمبر 2018
تحرك لـ"مقاومين" من زمن الأزمة يطالبون بحقوقهم(فاروق بطيش/فرانس برس)
+ الخط -
في سبتمبر/أيلول 2005، طرح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مشروعاً للمصالحة الوطنية، استكمالاً لقانون الوئام المدني الذي طُرح عام 1999، ويقضي قانون المصالحة في توفير إطار قانوني لمعالجة مجمل ملفات وآثار الأزمة الأمنية التي عرفتها البلاد منذ يناير/كانون الثاني 1992، وخلّفت أكثر من 150 ألف قتيل و14 ألفاً من ضحايا الإخفاءات القسرية وتخريب 40 ألف منشأة اقتصادية وفقدان 400 ألف عامل لأعمالهم، وعشرات النساء المغتصبات والأطفال الذين ولدوا في الجبال، إضافة إلى الآثار النفسية والاجتماعية وتفكك النسيج الاجتماعي وإصابة جيل كامل بآثار العنف والإرهاب. وحققت المصالحة الوطنية نتائج مهمة على صعيد الاستقرار الأمني وتسوية بعض المشاكل الاجتماعية، لكنها بقيت ناقصة وبحاجة لتطوير لمعالجة باقي الملفات التي لم تكن الظروف السياسية والاقتصادية في 2005 تسمح بفتحها ومعالجتها.

في 29 سبتمبر/أيلول 2005 صوّت 85 في المائة لصالح قانون المصالحة في استفتاء شعبي، وقرر بوتفليقة عرض القانون على الاستفتاء لإعطائه القوة الدستورية والشعبية، فيما كان بإمكانه إصداره بمرسوم رئاسي أو تمريره عبر البرلمان. وتضمّن القانون تسوية أوضاع آلاف المسلحين الذين سبق لهم أن تخلوا عن أسلحتهم ونزلوا من الجبال وفقاً لاتفاق الجيش مع قيادة "الجيش الإسلامي للإنقاذ" الذي حُلّ حينها، وإلغاء كافة المتابعات القضائية والقضايا المتصلة بنشاطهم السابق. كما منح القانون عفواً لصالح المسلحين الذين كانوا وما زالوا محل نشاط مسلح، مقابل ترك السلاح وتسليم أنفسهم للجيش والأمن، كما تضمّن تسوية مادية لقضية المختفين قسرياً، والبالغ عددهم بحسب منظمة المفقودين 14 ألف مفقود، من دون كشف حقيقة مصيرهم، وتسوية مادية لعائلات ضحايا الإرهاب.

ساهم مشروع المصالحة الوطنية في تحسّن كبير في الوضع الأمني في البلاد، وفي إعادة بعث مسار للتنمية وتحسين البنية التحتية، بعد فترة من الأزمة الدامية والتخريب الذي طاول كل نواحي الحياة. لكن جملة من آثار الأزمة الأمنية وملفاتها الأخرى ظلّت عالقة حتى الآن، ولم تحظَ بأي تسوية قانونية أو سياسية، بعضها لم تسمح التوازنات السياسية داخل السلطة في 2005 بالتطرق إليها، وبعضها راهنت السلطات على عامل الزمن لإنهائها، لكن تحسن الظروف السياسية ومناخ الحريات الإعلامية والمدنية دفع بهذه الملفات إلى الواجهة، بفعل تحرك المعنيين بها.

ويظل ملف المفقودين والمخفيين قسرياً خلال الأزمة الأمنية عالقاً وهاجساً كبيراً بالنسبة للسلطة الجزائرية، فقبل شهرين أعاد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فتح الملف ومطالبة الحكومة الجزائرية بالتعاطي مع الملف بإيجابية أكبر، خصوصاً أن جمعية "إس أو إس مفقودين" التي أنشئت في 15 سبتمبر/أيلول 1999، ما زالت تطالب أسبوعياً وتنظّم حراكاً وتجمّعات في العاصمة الجزائرية ومدن أخرى لكشف حقيقة ومصير المخفيين. وقال المتحدث باسم الجمعية في الجزائر، حسان فرحاني، في لقاء مع "العربي الجديد"، إن "المنظّمة تملك ثمانية آلاف ملف لمخفيين قسرياً، وتسعى للقيام بكل الخطوات اللازمة محلياً لكشف الحقيقة قبل الانطلاق إلى خطوات دولية"، مضيفاً أنه "من الأفضل بالنسبة للسلطة أن تعالج الملف، ونحن لا نطالب بإعادة إحيائهم، لكننا نطالب بالحقيقة ومعرفة مصير أبنائنا وأشقائنا، ثم نتناقش في إمكانية العفو والصفح عن المتورطين في جرائم الاختفاء القسري"، مشيراً إلى أن "هذه هي المصالحة الحقيقية، وليست المصالحة التي تفرضها السلطة". ولفت فرحاني إلى أنه "على الرغم من وجود تضارب في أرقام عدد ضحايا الإخفاءات القسرية بين الأجهزة الأمنية، فإن ذلك ليس مهماً، المهم بالنسبة لنا هو إقرار الحقيقة كاملة، ومطلبنا واضح وهو تشكيل لجنة مستقلة لمعرفة الحقيقة، وهذا سيبقى إصرارنا مهما طال الزمن".

في بداية التسعينيات ومباشرة بعد انقلاب الجيش في 12 يناير/كانون الثاني 1992، اقتادت السلطات 30 ألف معتقل سياسي إلى معتقلات أقيمت لهم في الصحراء، بتهمة الانتماء إلى "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، التي أصبحت حزباً محظوراً منذ مارس/آذار 1992، وتم لاحقاً الإفراج عنهم من دون أي تعويض. لكن المشكلة التي برزت لاحقاً، أنه وإضافة إلى فقدان هؤلاء المعتقلين لأعمالهم، فإن بعض هذه المعتقلات أقيمت في مناطق فيها إشعاعات نووية من مخلّفات التفجيرات النووية التي أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية في الفترة بين 1958 و1963، كمنطقة رقان، والتي أدت إلى إصابة عدد كبير من المعتقلين بأمراض مختلفة بينها السرطان. وقال نور الدين بلميهوب، المتحدث باسم المعتقلين والذي يعاني من هذه المخلّفات، لـ"العربي الجديد"، إن "السلطة وجنرالات الجيش حينها كانوا يعلمون بوجود إشعاعات في المنطقة، لكنهم دفعوا بالمعتقلين إلى تلك المعتقلات في تلك المنطقة، وهذا في حد ذاته نوع من القتل المبرمج"، مضيفاً أن "تلك الاعتقالات تمت بطريقة غير قانونية، والمعتقلون ما زالوا يطالبون الدولة بتحمّل مسؤولياتها وتعويض الضحايا وعلاجهم".

ثمة قضية أخرى ما زالت تتفاعل بشكل مستمر، وتتعلق بما يُعرف بالمعتقلين السياسيين في الجزائر، وهم المساجين الذين تمت محاكمتهم من قبل محاكم خاصة أنشئت في منتصف التسعينيات، بطريقة غير دستورية للنظر في قضايا الإرهاب، وحُكم عليهم بالإعدام أو السجن المؤبد، وبعضهم عسكريون وجّهت إليهم تهمة الانتماء والتعاطف مع "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" حينها. قبل شهرين نظّمت عائلاتهم ونشطاء تجمّعات احتجاجية للمطالبة بإنهاء ما اعتبره النشطاء "مأساة هؤلاء المعتقلين". وقال السجين السابق والمتحدث باسم تنسيقية المعتقلين السياسيين مصطفى غزالي لـ"العربي الجديد"، إن "قضايا هؤلاء مرتبطة بفترة الأزمة الأمنية وكان يجب أن يشملهم قانون المصالحة الوطنية الذي نصّ على العفو عن المساجين"، مضيفاً "قضايا هؤلاء مرتبة بانتماء سياسي، ولا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية في ما لا يزال هناك معتقلون يدفعون ثمن موقف أو انتماء لحزب سياسي كان معتمداً".

إضافة إلى هذه القضايا تُطرح قضية الأفراد الذين فقدوا أعمالهم وفُصلوا منها بسبب انتمائهم السياسي لـ"جبهة الإنقاذ"، إذ قامت السلطات والأجهزة الأمنية والاستخبارات بالضغط على المؤسسات الاقتصادية والتعليمية لفصل هؤلاء من مراكزهم. وبعد انتهاء الأزمة الأمنية طالب هؤلاء بالعودة إلى مناصب عملهم أو الحصول على تعويضات، لكن السلطات رفضت الاستجابة لهذه المطالب.


ويدخل في السياق نفسه ملف آخر يأخذ بعداً إنسانياً بشكل خاص، ويتعلق بما يُعرف بأطفال الجبل، وهم الأطفال الذين وُلدوا في الجبال وفي مراكز المجموعات المسلحة، ولم يتم تسجيلهم، وما زالت أوضاعهم المدنية معقّدة بسبب عدم تسجيل الزواج الذي كان يتم في الجبال بين المسلحين والنساء سواء المختطفات أو اللواتي التحقن بالمسلحين، ويصبح الأمر أكثر تعقيداً بالنسبة للأطفال الذين فقدوا آباءهم المسلحين في عمليات للجيش، او الذين لا يُعرف نسبهم. ولفت رئيس لجنة المساعدة القضائية مروان عزي، إلى أن هناك أكثر من 500 طفل في هكذا وضعية، وتتطلب تسوية أوضاع بعضهم تحاليل حمض نووي لمعرفة صحة نسبهم.

لكن الملفات العالقة منذ زمن الأزمة الأمنية لا تتعلق بضحايا الأزمة فقط، لكنها باتت تتصل أيضاً بطرف فيها، إذ ينظّم الآلاف من نحو 150 ألف عسكري سابق في الجيش من المتقاعدين المصابين في عمليات مكافحة الإرهاب وجنود التعبئة الخاصة، سلسلة متواصلة من الحراك الاحتجاجي في الفترة الأخيرة للمطالبة بحقوقهم الاجتماعية. وقال نائب المنسق العام لتنسيقية العسكريين المتقاعدين والمصابين وذوي الحقوق، عيسى بوزرارة لـ"العربي الجديد"، إنه "كان على السلطة أن تأخذ مطالبنا بعين الاعتبار بعد مساهمتنا في الدفاع عن البلاد في ظرف عصيب، ومن المؤلم والمخزي أن يتم التنكر لتضحياتنا من قبل السلطة"، مشيراً إلى أن "التعامل الفظ والعنيف لقوات الأمن مع اعتصام العسكريين قرب العاصمة الجزائرية أخيراً مؤشر على هذا التنكّر".

وتدخل في السياق نفسه مطالب فئة أخرى هي الحرس البلدي، وهي قوة محلية أنشئت منتصف التسعينيات للمساعدة في مكافحة الإرهاب وتأمين المنشآت، ويعتبر أفراد الحرس البلدي أن السلطة "استخدمتهم في فترة محاربة الإرهاب في أوج الأزمة الدموية خلال التسعينيات، لكنها قامت بإقصائهم من الحصول على حقوقهم بعد استتباب الأمن". ونظّم منتسبو الحرس البلدي احتجاجات كان أبرزها اعتصام دامٍ لأيام في إبريل/نيسان 2012 قرب العاصمة الجزائرية، واعتصام ثانٍ وسط العاصمة الجزائرية في مايو/أيار 2014 للمطالبة بحقوقهم. وينضم إلى العسكريين السابقين والحرس البلدي، ما يعرف بعناصر مجموعات الدفاع الذاتي والمقاومين، وهم مدنيون قامت السلطات بتسليحهم للمساعدة في ملاحقة المجموعات الإرهابية، وقاموا باحتجاجات للمطالبة بتسوية حقوقهم المادية بعد فترة خدمة، خصوصاً أن بعضهم تعرض لإصابات خلال مكافحة الإرهاب، وتم التخلّي عنهم بعد استقرار الوضع الأمني.
وتطالب فئة أخرى من ضحايا الأزمة الأمنية لم يشملها قانون المصالحة الوطنية، بالتعويضات من الحكومة، وهم ضحايا الخسائر الاقتصادية، وأغلبهم من السكان ورجال الأعمال والاقتصاديين الذين خسروا مصانع ومزارع ومنشآت اقتصادية بفعل الأزمة، بينما ترفض الحكومة التعاطي مع مطالبهم، بما فيهم السكان الذين أدت عمليات التخريب إلى فقدانهم لممتلكاتهم.

خارج السياق المطلبي، يظل ملف أكثر حساسية لم تتم معالجته سياسياً، ويتعلق بالحقوق السياسية للمنتمين سابقاً لـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ" أو الذين حملوا السلاح، إذ ترفض السلطة أي إمكانية لرفع الحظر السياسي عن الجبهة، ومنعت أكثر من محاولة لإنشاء حزب سياسي بديل، كما تتمسك بمنع النشطاء السابقين في الجبهة من العمل السياسي والترشح. وتستند السلطة إلى مادة في قانون المصالحة تنصّ على منع كل من كان سبباً أو شارك في المأساة الوطنية من العمل السياسي. وبرأي الناشط السياسي والقيادي في "منتدى الوسطية" عبد الرحمن سعيدي، فإن "13 سنة بعد الاستفتاء على المصالحة التي كانت تمثّل حينها مخرجاً للأزمة الأمنية والسياسية، سُجّلت نتائج جد إيجابية، إذ فَقَد الإرهاب وحمْل السلاح مبررهما وضعف جناحهما السياسي، وتقلّص هامش كل منطلقات الأزمة مع مرور سنين على المصالحة، ولكن تظل بعض القضايا تراوح مكانها، ومنها انخراط الذين حملوا السلاح في الشأن السياسي، سواء بالانتظام في أحزاب أو تشكيل حزب والترشح في الانتخابات ورفع القيود السياسية عنهم". وأشار إلى ملفات أخرى "تتعلق بمستقبل أبناء الإرهابيين الذين لم يندمجوا في الحياة الاجتماعية بطريقة ملائمة ومقبولة إلى حد بعيد، ومشاكل اجتماعية تتفاقم وتزداد، وكذلك الإرهابيين الذين سلموا أنفسهم للقوات المسلحة وما زالت أمورهم معقدة".