فرنسا بين عامي 2002 و2017... ماذا تغير؟

باريس

عبدالإله الصالحي

avata
عبدالإله الصالحي
06 مايو 2017
1B5A3192-1548-4533-8184-1CD3FE924652
+ الخط -
يستعدّ الفرنسيون، غداً الأحد، للتصويت في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، من أجل اختيار رئيس جديد لولاية من خمس سنوات، بين مرشح حركة "إلى الأمام" الوسطي ايمانويل ماكرون ومرشحة حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف مارين لوبان. وتحتدم المعركة بين مرشح يحظى بدعم من اليسار واليمين وبين مرشحة تدعو للخروج من الاتحاد الأوروبي وإغلاق الحدود وفرض مبدأ الأفضلية للفرنسيين ومكافحة الهجرة. هذه المواجهة ليست جديدة في الواقع، فقبل 15 عاماً نجح جان ماري لوبان والد مارين في الفوز في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، بعد إقصاء المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان، قبل السقوط في الدورة الثانية أمام الرئيس جاك شيراك.

تبدو الأشياء للوهلة الأولى كما أن لا تغيير قد حصل في الأفق. فبعد مرور 15 عاماً على مواجهة جان ماري لوبان مع شيراك، تخوض نجلته مارين نفس المواجهة مع ماكرون. وخلف هذا التشابه بين سيناريو 2002 وسيناريو 2017 ثمّة فارق جوهري يتمثل في أن مارين لوبان تخوض معركة الحسم متحررة من موجة الرفض العارمة التي واجهت والدها آنذاك، والإجماع العارم ضد شخصه وأفكاره.

بين عامي 2002 و2017 أشياء كثيرة تغيرت وبعضها انقلب رأساً على عقب. وأول هذه المتغيرات هو أن هناك تصدعاً لمبدأ الجبهة الجمهورية، الذي ينصّ على تكتل النخبة السياسية يساراً ويميناً لقطع الطرق على اليمين المتطرف، الذي يمثله "الجبهة الوطنية". وغداة الفوز المدوي والمفاجئ لجان ماري لوبان في 21 أبريل/نيسان 2002 هبت الطبقة السياسية بكل أطيافها، وعلى رأسهم جان لوك ميلانشون، الذي كان آنذاك شخصية قيادية في الحزب الاشتراكي، إلى تكوين سد انتخابي منيع حال دون فوز لوبان والتصويت بكثافة لصالح شيراك، مما أدى إلى فوز هذا الأخير بنسبة 82 في المائة وهو رقم يشبه نتائج الانتخابات في الدول الشمولية أكثر مما يشبه نتائج الانتخابات في الديمقراطيات الغربية.

حصلت أمور كثيرة منذ 15 عاماً وحتى اليوم، وفي انتخابات العام الحالي، ورغم أن المرشح الاشتراكي بونوا هامون واليميني فرانسوا فيون دعيا منذ ليلة إعلان نتائج الدورة الأولى للتصويت، في 23 أبريل/نيسان الماضي، على ماكرون، فقد اختفى الحديث عن مبدأ الجبهة الجمهورية، وبات واضحاً أن شيئاً ما انكسر في هذه القاعدة. ومثال على ذلك، أن المرشح الخاسر في الجولة الأولى، جان ـ لوك ميلانشون، الذي كان قد دعا إلى التصويت بقوة لصالح شيراك ولو بـ"ارتداء قفازات" في صناديق الاقتراع عام 2002، امتنع هذه المرة عن الدعوة إلى التصويت لصالح ماكرون أو لوبان، تاركاً حرية الاختيار لملايين الناخبين الذين صوتوا له في الدورة الأولى.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التظاهرات الحاشدة التي انطلقت بشكل عفوي في مدن فرنسية عدة، بعد فوز لوبان الأب في الدورة الأولى عام 2002، مطالبة بالوقوف في وجه اليمين المتطرف، لم تشابهها تظاهرة مماثلة إثر فوز لوبان الابنة في الدورة الأولى، بل خرجت مجموعة من نشطاء اليسار المتطرف، التي عادت واشتبكت مع قوات الشرطة في ساحة باستيل.



وإذا كان انتصار لوبان الأب في الدورة الأولى قبل 15 عاماً قد شكّل صدمة قوية، فإن فوز ابنته كان متوقعاً في كل استطلاعات الرأي منذ أشهر عديدة، بل إن لوبان الابنة ظلّت تركض منفردة في المقدمة بينما الصراع على أشده بين بقية المرشحين للفوز بالمرتبة الثانية. ومنذ أشهر قليلة باتت "وجهاً مألوفاً ومقبولاً" من طرف الغالبية، كما قامت بحملة انتخابية منظمة من دون عوائق تُذكر.

ومن المتغيرات الأساسية الأخرى أنه في عام 2002 رفض جاك شيراك الخوض في سجال مع لوبان الأب، واعتبر أنه "يستحيل النقاش مع حزب الجبهة الوطنية" ولم تحصل أي مواجهة تلفزيونية بينه وبين لوبان. وبعد مرور 15 عاماً شاهد ملايين الفرنسيين مناظرة تلفزيونية، يوم الأربعاء الماضي، بين لوبان وماكرون. وعلى الرغم من أن المناظرة صبّت لصالح ماكرون، إلا أن مجرد تنظيمها هو ربح هائل لحزب "الجبهة الوطنية" ولمارين لوبان، التي وجدت منبراً استثنائياً أطلقت منه أفكارها وشعاراتها مثل أي مرشح آخر.

وهذا في حد ذاته فارق جوهري يعكس تغير واقع الحال في المشهد السياسي الفرنسي، وأيضاً في المجتمع بشكل عام. إلا أن أفكار اليمين المتطرف وشعاراته انتشرت سياسياً واجتماعياً وفكرياً في السنوات الأخيرة حتى صارت عادية ولا تستفز إلا القلة. وتحوّل حزب "الجبهة الوطنية" مع مرور السنين إلى حزب عادي وقويت شوكته وبات يستقطب أعداداً هائلة من الفرنسيين. وقبل 15 عاماً كان الحزب اليميني المتطرف يستمد قوته من معاناة شرائح واسعة من مشاكل البطالة وانعدام الأمن والهجرة. وبعد مرور 15 عاماً استفحلت هذه المشاكل كلها، في ظل عجز الحكومات المتعاقبة يساراً ويميناً عن القيام بإصلاحات جذرية تحد من البطالة وترسخ الأمن وتجد حلولاً لمشاكل الضواحي والمهاجرين.

واستغل حزب "الجبهة الوطنية" هذا العجز السياسي في الحزبين الاشتراكي واليميني ليزيد من رصيد شعبيته. وبعد مرور 15 عاماً ظهرت إشكالات جديدة صبت لصالح اليمين المتطرف، ومنها على وجه الخصوص إرهاب تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). فقد ساهمت الاعتداءات الإرهابية التي زلزلت فرنسا في السنوات الأخيرة، وسقط بسببها العشرات من الفرنسيين الأبرياء، في زيادة شعبية حزب "الجبهة الوطنية"، وبات كل اعتداء ارهابي جديد يُنسب إلى التنظيم يزيد نقاطاً إضافية في رصيد "الجبهة الوطنية".



أيضاً قامت مارين لوبان بعملية تجديد كبيرة في الحزب وأطاحت بوالدها وبالقيادات التي كانت تدور في فلكه، واستبدلت الشعارات الاستفزازية تحديداً في حق اليهود والمحرقة النازية بخطاب عصري، بصيغة أخرى للحلول نفسها وفق مفهوم "الجبهة". وأظهرت العديد من استطلاعات الرأي أن ثلث الفرنسيين مقتنعون بأفكار اليمين المتطرف، ما أكد ترسخ هذه الأفكار خارج دائرة المتعاطفين التقليدية، وحتى شريحة المزارعين مثلاً التي كانت تصوت عادة لليمين المحافظ باتت منجذبة إلى "الجبهة الوطنية".

وفي السنوات الأخيرة بات اليمين المحافظ التقليدي يتبنّى شعارات "الجبهة الوطنية"، للانسجام مع ميول شرائح مهمة من قاعدته الانتخابية إلى أفكار اليمين المتطرف، خصوصاً في مجال الهجرة والإسلام والأمن. كما أن لوبان استخدمت فقرات كاملة من خطاب سابق للمرشح اليميني المنهزم فرانسوا فيون، وضمنتها في خطاب لها من دون أن يشكل ذلك نشازاً، بل أقرّت باستعمال هذه الفقرات عمداً، ما أظهر بأن الفرق بات منعدماً بين خطاب اليمين التقليدي والخطاب اليميني المتطرف.

ما تغير في السياسة من جهة تفشي الأفكار العنصرية والشعبوية، تغيّر أيضاً في مجالات أخرى منها الإعلام والثقافة. فقد ظهر إعلاميون رافعين خطاب اليمين المتطرف من دون عقد، كإيريك زمّور، وهو فرنسي يهودي مولود من أصول جزائرية. كما أن كتبه التي تجرم الإسلام والمهاجرين تلقى نجاحاً كبيراً في المكتبات.

في مجال الأدب انحسر مد الأفكار اليسارية والتقدمية وبزغ نجم كُتّاب يدعون جهراً لمعاداة الإسلام والهجرة ويتبنّون أفكاراً يمينية متطرفة، مثل الكاتب رونو كامو صاحب نظرية "الاستبدال الكبير"، التي تحذر من مغبة استبدال الفرنسيين بالمهاجرين العرب والمسلمين والأفارقة وكسر الهوية القومية الفرنسية. هناك أيضا ميشال ويلبيك، وهو واحد من أشهر الكتاب الفرنسيين في العقدين الأخيرين، والذي يشهر بلا حرج أفكاره العنصرية والمعادية للمهاجرين وتباع كتبه بالملايين.

كل هذه المعطيات، التي تعكس تحولاً جوهرياً في الساحة السياسية الفرنسية ساعد على ترسخ حزب الجبهة الوطنية، تجعل من اقتراع الغد منعطفاً حاسماً في تاريخ فرنسا الحديث، وكل المؤشرات تؤكد أن نتيجة 82 في المائة التي حصل عليها شيراك، لن تكون في متناول ماكرون هذه المرة. وكيفما كانت النتيجة لصالح ماكرون أو لوبان وبخلاف عام 2002 فإن ما سيحدث غداً، لن يحجب المعطى الجديد، الذي يتمثل في انقسام فرنسا إلى معسكرين برؤيتين متعارضتين إلى أقصى الحدود.

ذات صلة

الصورة
امرأة في منطقة الصحراء، 3 فبراير 2017 (Getty)

سياسة

دخلت العلاقات بين فرنسا والجزائر في أزمة بعد إعلان فرنسا دعمها مخطط الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب بشأن الصحراء وهو ما قد لا يساعد في حل القضية.
الصورة
ماكرون يلقي خطابًا متلفزًا يعلن فيه حل البرلمان، 9 يونيو 2024 (فرانس برس)

سياسة

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مساء الأحد، حلّ الجمعية الوطنية وتنظيم انتخابات تشريعية جديدة، بعد فوز اليمين المتطرف الفرنسي في الانتخابات الأوروبية.
الصورة
ماكرون وفيروز /تويتر

منوعات

هل ستغني فيروز في السعودية؟ لن تغني فيروز في المملكة؟ أسئلة تطرح منذ أكثر من عامين من دون جواب شاف، قبل ايام استعاد البعض الأسطوانة نفسها عبر المواقع البديلة.
الصورة

اقتصاد

أطلقت النقابات العمالية موجة ثالثة من الإضرابات على مستوى فرنسا اليوم الثلاثاء، احتجاجاً على خطط الرئيس إيمانويل ماكرون لجعل المواطنين يعملون لفترة أطول قبل التقاعد مع بدء عملية لتمرير التشريع في البرلمان.