مشاريع نوّاب السيسي لإغاظة تركيا تلجمها المصالح الاقتصادية

مشاريع نوّاب السيسي لإغاظة تركيا تلجمها المصالح الاقتصادية

09 اغسطس 2016
تشهد تركيا تظاهرات لمعارضين لنظام السيسي (أوزان كوز/فرانس برس)
+ الخط -
تحوّل البرلمان المصري في الأيام الأخيرة إلى ساحة لتنافس النواب الموالين للنظام الحاكم على تقديم مشاريع وأفكار لإغاظة الدولة التركية، أو "كيدها سياسياً"، كما يقول المصريون، وذلك في سياق الخصومة المستمرة بين القاهرة وأنقرة منذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز في مصر، والإطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي، وموقف الحكومة التركية الثابت من معارضة سياسات نظام عبدالفتاح السيسي، خصوصاً منذ ارتكاب قواته المسلحة مجزرتي رابعة والنهضة في 14 أغسطس/آب 2013.

وخلال 72 ساعة فقط، تلقت لجنة الاقتراحات في البرلمان المصري 3 مشاريع تدخل في سياق مسار التصادم مع تركيا. وكان المقترح الأول من نصيب النائب والصحافي مصطفى بكري لإصدار قرار من مجلس النواب المصري يدين عدم اعتراف تركيا بالمجزرة التي تُتهم قوات الدولة العثمانية بارتكابها ضد الأرمن بين عامي 1915 و1922، والتي صدرت بشأنها قرارات مشابهة من برلمانات أوروبية، لكن مصر لم يسبق لها الاهتمام بهذا الموضوع حتى في أسوأ فترات العلاقة بين البلدين، نظراً للعلاقة السياسية الضعيفة بين مصر وأرمينيا، وارتباط مصر التاريخي، رغم الخلافات السياسية، بتركيا والدولة العثمانية.

وبينما قوبل مقترح بكري بتأييد مبدئي من 337 نائباً مما يؤهله للمناقشة في الجلسة العامة للبرلمان، تقدّم النائب نورالدين عبدالرازق بمشروعين آخرين؛ أحدهما لإنشاء قناة مصرية باللغة التركية "للرد على أكاذيب النظام التركي ضد مصر" والآخر بمقاطعة اقتصادية نهائية من المصريين للسلع والمنتجات التركية. ورغم أن مقترحي عبدالرازق وجدا صدى وتأييداً في وسائل الإعلام الموالية لنظام السيسي، وخصوصاً صحيفة "اليوم السابع" المقربة من الدائرة الاستخبارية-الرقابية التي يديرها عباس كامل مدير مكتب السيسي، إلا أن المعطيات الاقتصادية والاستثمارية تؤكد استحالة قطع العلاقة الاقتصادية بين البلدين، خصوصاً من جهة مصر، باعتبارها المستفيد الأكبر من استمرار هذه العلاقة ونموها رغم الخلاف السياسي بين النظامين الحاكمين.

بعيداً عن المساجلات السياسية، تشهد السوق المصرية تواجداً متنامياً للمستثمرين الأتراك، سواء بمشاريعهم أو تصدير منتجاتهم أو بالشراكة مع مستثمرين مصريين، وذلك حتى بعد عزل مرسي وحكومته. ففي المجمّعات التجارية الفاخرة، تحتل الشركات التركية صدارة إقبال المصريين، وفي الأحياء السكنية المزدحمة تتوسع سلسلة متاجر "بيم" التركية لتزاحم متاجر مصرية تقليدية وأخرى أجنبية في مجال بيع الأغذية بالجملة والتجزئة. وحتى في المتاجر التابعة لجهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، التي كانت حتى عام 2013 تقتصر على بيع منتجات شركات الجيش وشركات مصرية أخرى، باتت السلع الغذائية المستوردة من تركيا تحتل صدارة المبيعات، وتحديداً في أصناف البسكويت والحلويات والزيوت والمعجنات المستوردة. بينما ما زالت القنوات الفضائية الموالية للنظام تتسابق على إذاعة المسلسلات التركية التي تابعت بثها عام 2014 بعد أقل من عام من وقفها بحجة "إدانة التدخل التركي في الشأن المصري وتأييد أنقرة لجماعة الإخوان المسلمين".

وقدّر وزير التجارة والصناعة المصري طارق قابيل، الاستثمارات التركية في مصر بنحو 5 مليارات دولار، وأعرب خلال حضوره فعاليات مؤتمر وزراء الصناعة والتجارة للدول الأعضاء في منظمة الدول الإسلامية الثماني، في مارس/آذار الماضي، عن ترحيب مصر بالمستثمرين الأتراك لضخ الأموال في بلاده وإقامة مشروعات صناعية تساهم في تشغيل العمالة المصرية. ويُقدّر مصدر في اتحاد الغرف التجارية، فرص العمل التي توفّرها المصانع والمتاجر التركية في مصر بما يزيد على 40 ألف فرصة عمل، مبرراً هذا الرقم الكبير بأن "كل المشاريع التركية تتسم بحاجتها لعدد كبير من العمال دون شروط خبرة مميزة، على عكس المشاريع الألمانية أو الإيطالية التي تتطلب عدداً أقل من العاملين ذوي الخبرة العالية والمهارة التقنية الدقيقة". بينما يبلغ إجمالي التبادل التجاري بين البلدين نحو 4 مليارات دولار بزيادة مليار دولار عما كان عليه في 2010، مع الأخذ في الاعتبار أن الاستثمارات التركية في مصر قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011 كانت تقل عن 3 مليارات دولار.
ورغم أن مصر، مدفوعة باعتبارات سياسية، ألغت اتفاقية عبور الشاحنات التركية على أراضيها في إبريل/نيسان 2015، إلا أن البنك المركزي المصري أعلن في يونيو/حزيران 2015، ارتفاع حجم التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 49 في المائة خلال الفترة بين يوليو/تموز وديسمبر/كانون الأول من العام المالي 2014/2015، ليصل إلى 1.842 مليار دولار، مقابل 1.232 مليار دولار في الفترة نفسها من العام المالي السابق.


ولا تتعاطى الحكومة المصرية بإيجابية مع دعوات إعلامية وبرلمانية لمراجعة اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، ويقول المصدر في اتحاد الغرف التجارية إن "مصر مستفيدة من هذه الاتفاقية أكثر من استفادة تركيا، لأن الصادرات المصرية تزيد بنسبة تفوق زيادة نظيرتها التركية، وذلك في ظل استغلال المستثمرين الأتراك إمكانياتهم المالية والتسهيلات الاستثمارية الجديدة في مصر لإقامة مشاريع كاملة بمصر، مما يحقق لهم فوائد أكبر على المدى الطويل، ويساهم في تشغيل الأيدي العاملة المصرية أيضاً".
وعلى النقيض من هذا المشهد الاقتصادي المزدهر بين الطرفين، لا تبدو هناك أية فرصة للتقريب بين النظامين السياسيين، خصوصاً بعدما أفصحت حكومة السيسي عن نواياها بالترحيب بمحاولة الانقلاب في تركيا قبل إعلان فشلها، ثم مساهمة مصر في عرقلة إصدار بيان عن مجلس الأمن الدولي ضد محاولة الانقلاب، إذ تعاملت الدبلوماسية المصرية مع الحدث بمبدأ "الإغاظة والكيد" الذي يتبناه نواب مثل مصطفى بكري ونورالدين عبدالرازق.
وتعتبر الحكومة التركية مصر إحدى الوجهات المحتملة للجوء زعيم حركة "الخدمة" فتح الله غولن، المتهم الأول بدعم محاولة الانقلاب، وذلك على خلفية وجود أتباع لغولن في مصر ينشطون في مجالات استثمارية مختلفة، ويملكون 3 مدارس تابعة لجماعته، أبرزها مدرسة صلاح الدين الدولية في التجمع الخامس في القاهرة، ومركزين ثقافيين في القاهرة والإسكندرية.

ووضعت تركيا مصر مع أربع دول أخرى يُحتمل أن يتوجّه إليها غولن في حال مغادرته الولايات المتحدة، هي أستراليا والمكسيك وكندا وجنوب أفريقيا. وبينما التزمت السلطات المصرية الرسمية الصمت إزاء هذه المعلومات، ظهرت بعض الأصوات الإعلامية والسياسية المقربة من السيسي أو الموالية له تطالب بالترحيب بلجوء (محتمل) لغولن، وهي الخطوة التي إذا حدثت قد تقطع كل ما تبقى من صلات سياسية بين القاهرة وأنقرة.
وتعليقاً على ذلك، يرى مصدر دبلوماسي في ديوان وزارة الخارجية المصرية، أن "العلاقة بين البلدين ستظل متوترة لحين زوال أحد النظامين الحاكمين، أو تعرضهما معاً لضغوط شديدة من دولة كبرى بهدف التنسيق الإقليمي إزاء قضية معينة، وقد كان هذا ممكناً في بعض الملفات، كمحاربة تنظيم داعش، لكن جاء الخلاف المبدئي بين البلدين حول إمكانية بقاء نظام بشار الأسد في سورية ليغلق الباب أمام محاولات التقريب".
ويؤكد المصدر أن هناك مشاكل تؤدي للجوء الطرفين إلى سياسة "الإغاظة" والتمادي في الخصومة الإعلامية للتنفيس عن حجم الغضب المتبادل، تتمثل في انشغال كل طرف بقضاياه الخاصة التي تمنع حدوث مواجهة مباشرة بإجراءات دبلوماسية حادة، فمصر مشغولة بوضعها الاقتصادي المأزوم والحرب على الإرهاب في سيناء، وتركيا مشغولة بالوضع في سورية والعراق بالإضافة لتبعات محاولة الانقلاب الأخيرة.
ويستبعد المصدر نفسه بشكل كامل أن تتخذ الحكومة المصرية أي إجراءات من شأنها قطع أو الإضرار بالعلاقات الاقتصادية مع تركيا، مؤكداً أن "مصر تبقى المستفيد الأكبر من هذه الاستثمارات وكذلك التبادل التجاري، إلا إذا ضمنت إحدى القوى الإقليمية الأخرى ملء فراغ الاستثمارات التركية من خلال استثمارات جديدة وكبيرة، وهذا ما لم يحدث حتى الآن، وليس مرتقباً في المدى المنظور".