كي لا تبقى حلولنا شراء للسمك في البحر

كي لا تبقى حلولنا شراء للسمك في البحر

19 مارس 2017
+ الخط -
تسير سجالات عربية وازنة حول "الحلّ الأمثل" للقضية الفلسطينية، على هدي مقولة "شراء السمك وهو في البحر". وبينما يستمر الصيد المتخيّل لهذا السمك وهو لا يزال يسبح في المياه، يضحك العقل الصهيوني في سرّه، ويسعد أيما سعادة بحديث حلّ الدولتين خصوصاً، على عكس ما يوحي به بنيامين نتنياهو ظاهراً، لمعرفته الكاملة بما جنته يداه وأسلافه منذ اتفاقيات أوسلو، لناحية جعل حديث الدولة الفلسطينية مرادفاً عملياً لنظرية "الحكم الذاتي"، بعدما قضت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على إمكانيات إقامة دولة فلسطينية حقيقية، ذات سيادة وحدود وعاصمة تعود لخطوط الرابع من يونيو/حزيران 1967، وذات امتداد عربي، وصاحبة إمكانات لتأمين عودة اللاجئين من الشتات، وذات مقومات تجعلها فعلاً دولة قابلة للحياة لا مقاطعة ولا كانتوناً ولا غيتو بائساً.

ويختلف الطرح العربي الفلسطيني للحل الأمثل للقضية الفلسطينية باختلاف القائل بهذا الحلّ. فحينما تكرّر السلطة الفلسطينية، والدوائر "الفكرية" المحسوبة عليها، أو المولودة من رحم اتفاقيات أوسلو، معزوفة التمسك بحل الدولتين، كنقيض لاستمرار الاحتلال وكنقيض أيضاً لفكرة الدولة الديمقراطية الواحدة لكل مواطنيها (الفلسطينيون واليهود)، إنما ينطلق هؤلاء في ذلك من مرجعية أوسلوية جعلت الدولة في مخيالهم مرادفاً للسلطة، وهو ما ربما يكون الإثم الأكبر لاتفاقيات عام 1993 وملحقاتها، إذ صارت السلطة عقبة أمام الدولة لا وسيلة لتحقيقها، وباتت السلطة بلا دولة عند هؤلاء هدفاً بذاته. كذلك هو حال خروج كلام القبول بحل الدولتين من دوائر صهيونية أقل حدة من فاشية الليكود والائتلاف الحاكم اليوم في تل أبيب؛ فالدولة الفلسطينية تكاد تكون موجودة بالفعل برأي هذا التيار الصهيوني، منذ الانسحاب الأحادي من قطاع غزة، وإن لم يكن ذلك الغيتو كافياً بمساحته وموارده، فلا بأس حينها بـ"تنازلات" إسرائيلية من نوع التفاوض حول الحلول البديلة التي تعود للظهور بشكل موسمي على شاكلة "دولة سيناء" (غزة وجزء من الصحراء المصرية التي ترغب السلطات في القاهرة بالتخلص من همّها ربما)، أو عبر صيغة "تبادل الأراضي" بمختلف تنويعاتها، أكانت تلك التي ترغب في الخلاص من "السكان الأصليين" أي الفلسطينيين داخل أراضي 48، أو التي تستعجل ضمّ ما تبقى من أراضي الضفة في المنطقة "ج" إلى إسرائيل، مقابل أجزاء من صحراء النقب مثلاً.

أما حين يُطرح مشروع حل الدولة الديمقراطية الواحدة، ثنائية القومية، فتتفق دوائر السلطات، في رام الله وفي تل أبيب، كل من خلفيته، لرفض الكلام "غير الواقعي" بالنسبة للمتمسكين بسلطة أوسلو من جهة، والمرفوض تماماً من مختلف تيارات المؤسسة الصهيونية، بأجنحتها اليمينية واليسارية، من جهة ثانية، على اعتبار أن هذا المشروع من شأنه ضرب أصل الصهيونية كفكرة وكمشروع قائمين على استعباد شعب لآخر، واحتلال شعب لآخر، وتفوّق شعب على آخر... باختصار، يثير مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة ذعراً صهيونياً موصوفاً، لأنه يفضح التناقض الأساسي بين الديمقراطية والصهيونية، وهو ما لا طاقة للمؤسسة الإسرائيلية على تحمله، لا في الداخل ولا تجاه الخارج.

وأكثر ما يثير الخيبة كي لا نذكر السخرية، هو إصرار دوائر و"مفكري" السلطة الفلسطينية على "عدم واقعية" طرح مشروع الدولة الواحدة الديمقراطية لكل مواطنيها، وكأن حل الدولتين الذي يتمسك به هؤلاء، هو أكثر واقعية، بينما لا يبدو أن هناك فكرة تتعمق استحالتها، أكثر من فكرة حل الدولتين نفسها، تحديداً منذ أوسلو. وكأن رجال سلطة رام الله و"مفكريها" غافلون عما توغل فيه دولة الاحتلال منذ 24 عاماً، لناحية الاستيطان وقضم الأراضي في الضفة والقدس وتكريس لواقع الاحتلال في الهوية والاقتصاد والأمن بفضل مساعدات ثمينة من السلطة، وبشكل يجعل من حل الدولتين مجرد ثرثرة مستحيل تحقيقها، أو بأحسن الأحوال يتحول معها مفهوم حل الدولتين إلى حكم ذاتي لا دولة بتعريفها السياسي ــ القانوني الحقيقي.

ولكي لا يبقى التفكير الفلسطيني ــ العربي بحل الدولتين شراءً للسمك وهو في البحر، ربما يكون ممكناً تأجيل نقاش حل الدولة الواحدة الديمقراطية و/أو حل الدولتين، للقول إن الآن هو وقت العودة إلى الواقع الاحتلالي الدموي الاستيطاني، لمواجهته أو على الأقل للحدّ من خسائره وكوارثه، فالوحدة الفلسطينية بحاجة لجهد هائل، وإعادة الاعتبار لمقاومة الاحتلال بكافة أشكاله أولوية لا تسبقها أولوية، وتثبيت الشعب الفلسطيني في ما تبقى من أرضه أهم اليوم من نقاش الحلول النهائية، واستعادة منظمة التحرير الفلسطينية من أنياب سلطة أوسلو ورجال التنسيق الأمني وشخصيات الـvip في رام الله واجب وطني، وإبعاد شبح عدوان جديد على غزة مهمة نضالية، كذلك إبطال القناعة التي تنمو عند البعض في "حماس" وفي القطاع عموماً حول إمكانية الاكتفاء بدولة غزة.

المساهمون