اللّذة والجسارة

اللّذة والجسارة

31 مايو 2016
لوحة للفنان كميل حوا (بإذن خاص)
+ الخط -
متصلّب الأعضاء، وملتهبَ العينين، وشعره مغطى بنتف الريش، وبنطال بيجامته ملوّث ببراز الحمام، يخرج فتحي من الخُم المعتم بعد أن يزيح الصفيحة الفارغة ليسد بها ثقب الجدار المطل على بيت منى. تخشخش إناث الحمام وتهدل في أعشاشها الصفيحيّة، وتُبَرجِم الذكور وتدور حول نفسها وتسحب أذيالها العريضة على الأرض في الموضع الضيق الذي احتله فتحي لساعات وهو يمارس عادته السرية المسائية في إشعال السجائر والتلصّص على مطبخ الجيران. 

يغلق فتحي باب الخم ويحكمه بمسمار كبير معقوف، ويخبئ علبة السجائر في ثقوب الطوب فوق سقف الزينكو، ويمشي خطوات مبتعداً عن الخم، ويقف في وسط السطح بين أسلاك الغسيل، يتمطى ويحني جذعه للخلف واضعاً ذراعيه خلف ظهره، ويمد ساقيه ليطرد التصلب المؤلم في مفاصل ركبتيه، ويفرك عينيه ويرسل نظره إلى السماء الخالية من النجوم ليريح ذاكرته من الصور المنطبعة فيها، لكنّ صورة منى تنعكس على السماء المعتمة فتضيئها مثل شاشة سينما صيفية؛ منى تحضر العشاء لأبيها الجالس خلفها على طاولة صغيرة، تنقر البيضة بطرف الملعقة نقرة خفيفة، ثم تحاول فتحها فوق المقلاة بأطراف أصابعها فتفشل، فتضربها بالملعقة ضربة أقوى فتنكسر في يدها الرقيقة، ويسيل زلالها على أصابعها النحيلة، ويتناثر قشرها في المقلاة مختلطاً بصفارها، ويصدر الزيت طشيشاً وفرقعة بينما هي تفرد أصابعها الملوثة في الفراغ، وترتبك وتهز جسدها بعصبية وتخبط الأرض بقدميها ويعلو صوتها بصرخة استنجاد طويلة حادة :
- أمي، يا أمي....
ينتبه الأب ويسارع إلى إطفاء النار تحت المقلاة وكرشه الصغير يهتز تحت شلحته بالتزامن مع قهقهاته. تأتي الأم مسرعة، وتدرك بلمحة خاطفة المأزق الذي وضعت منى نفسها فيه، وترمي إليها فوطة وتدفعها بحركة من ذراعها، وتقوم، بمجموعة من الحركات الخبيرة والاستدارات الرشيقة، بإكمال المهمة البسيطة التي عجزت كبرى بناتها عن إنجازها. تنتحي مريم جانب النافذة وتمسح يديها وأطراف أصابعها، وتستمر في المسح مرة بعد مرة كأنها تعاقب نفسها، ويرى فتحي بعينه الملتصقة بالجدار احمرار وجهها وعضّة أسنانها على شفتها السفلى، فترمش عينه وتتهافت فيها ذرات الطوب الإسمنتي فتعمي بصره.

                                                  ******************

ماعون كبير مغلف بورق الألمنيوم تحمله أم منى بيديها الاثنتين، يحول دون معانقتها لجارتها أم فتحي، فتتبادل المرأتان الأربعينيتان البدينتان القبل والابتسامات من فوقه وهما تقفان على عتبة البيت، وتبدوان في ثياب الصلاة الفضفاضة مثل خيمتين كشفيّتين متجاورتين، وتشمّ أم فتحي رائحة اللبن الدافئ تنبعث من الماعون ومن ثياب ضيفتها.

- أهلاً وسهلاً، تفضلي. تقول أم فتحي والابتسامة لا تفارق محياها.
تناول أم منى الماعون لجارتها وتقول وهي تدلف إلى الصالة :
- هذه سكبة من شيخ المحشي. ثم تضيف بلهجتها الشامية كأنها تروي قصة من ألف ليلة وليلة
- أخوك أبو منى أقسم بالله أن لا يمدّ يده إليها إلا إذا شاركناكم فيها، فوضعت المنديل على رأسي وجئت إليكم فوراً.
رفعت أم فتحي الغطاء عن الماعون وأطلقت صيحة إعجاب :
- مخشي، الله ! أتعبت نفسك، سلمت يداك.
- محشي، شيخ المحشي. قالت أم منى وهي تضحك.
- مخشي، نحن الأردنيين نسميه المخشي، باللحم المفروم والصنوبر واللبن، المحشي يكون بالأرز وصلصة البندورة.
- مخشي أو محشي، بنتي منى - الله يرضى عليها – فنانة في طبخ النوعين؛ وحدها حفرت الكوسا وحشته وخثّرت اللبن بالنشا، وأنجزت الطبخة كلها بعد عودتها من المدرسة.
- ما شاء الله! ليت عندي بنت مثلها تساعدني في شغل البيت، أربعة أولاد وأبوهم، وأنا مثل الجارية من الصباح حتى منتصف الليل.
- الله يخلي لك إياهم، أولادك مثل الورد، خصوصاً فتحي، عندما يراني في الطريق أنا والبنات يستحي ويضع عينيه في الأرض، حتى أبو منى يقول إنه لا يقطع فرضاً ويمشي معه إلى المسجد كل يوم لصلاة الفجر.
رفضت الضيفة أن تطيل المكوث أكثر من الوقت اللازم لشرب فنجان قهوة، وظلت جالسة على طرف الكنبة القريبة من باب البيت، ومقابلها جلست المضيفة تحت برواز ذهبي كبير لامع يحوي صورة للملك حسين معتمراً الكوفية الأردنية ومبتسماً ابتسامته الأبوية المتواضعة، وتشي نظرته الحزينة وخطوط الزمن على زاويتي عينيه بكاريزميته الهادئة. وبين المرأتين، على الطربيزة، يجلس ماعون الكوسا السابح في اللبن.

- عندي رجاء إذا لم يكن فيه إزعاج لكم. قالت الضيفة بخجل بعد أن وضعت الفنجان الفارغ في صحنه.
- أبشري يا جارتنا، عيوني لك. قالت المضيفة بحميّة صادقة شجّعت الضيفة على البوح بما تضمر :
- بنتي منى عندها مشكلة مع اللغة الإنجليزية، وتعرفين المنهاج الأردني جديد عليها، وفتحي، اسم الله عليه، يدرُس الإنجليزية في الجامعة، فهل يمكن أن يراجع معها الدروس...؟
- ممكن طبعاً، منى في معزة أولادي، وبإذن الله فتحي لن يقصر، ورغم أنه في السنة الأولى لكنه يتكلم الإنجليزية أحسن من مذيع التلفزيون.
                                                  ******************

رحبت به الخيمة الكبيرة على باب الصالة، ولم يبد منها غير وجهها الأبيض الأمومي المستدير، وحين أفسحت له ليدخل، رأى فتحي منى المختفية خلف أمها واقفة في عمق الصالة إلى جوار طاولة بلاستيكية بيضاء اللون يعلوها شرشف أزرق مخرّم ومطرز بحبات لامعة من الخرز الفيروزي، وفي وسط الطاولة وضعت منى كتاب اللغة الإنجليزية المدرسي، وكُرّاسة تعليمية لشرح قواعدها، ودفتراً عليه وجه طفلة جميلة، ومجموعة من أقلام الحبر الملونة. وبدت منى في حجابها المنزلي نسخة مصغرة من أمها. جلست منى إلى طرف الطاولة بيمنا جلس فتحي إلى وسطها، وشاهد أمامه صورة بالأبيض والأسود، معلقة على الحائط، لرجل يخطب بعصبية وأصبعه يعلو رأسه الرمادي الشعر، وشاربه الأسود الكثيف يعلو فمه الفاغر الذي يوحي بكلمات نارية، أما حاجباه الأنيقان فيضفيان على تكشيرته مسحة من الثقة والوسامة الكاريزمية.

                                                  ******************

أمسك فتحي كتاب اللغة الإنجليزية، وقلب صفحاته وابتسم وقال بنبرة الأستاذ وهو يهز رأسه :
- أنفقت من عمري سنة كاملة في مصارعة هذا الكتاب، ولم أكن أظن أنني سأعود إليه.
- أنا عارضّتُ أمي حين اقترحتْ على أبي أن يسمح لي بالدراسة معك، أريدك أن تعرف ذلك من البداية.
نظر فتحي لأول مرة إلى عيني منى، وقد أربكه صوتها الحاد الذي لا يتناسب وحجم جسدها الضئيل، واحمر وجهه واختفت ابتسامته واعتدل في جلسته مثل تلميذ، ثم تنحنح واستجمع شجاعته وقال:
- كما تشائين، سأذهب، أنا هنا لأن أبي قال إننا يجب أن نساعد إخواننا السوريين.
- أنا فلسطينية مثلك، أمي سورية، لكن أبي مولود في الأردن، وهرب منها إلى مخيم اليرموك قبل ثلاثين سنة بسبب السياسة.
- إذن أنت أردنية أصلاً؟
- أنا فلسطينية مثلك، ويبدو أنك لا تعرف شيئاً لأن دماغك بحجم دماغ الحمامة.
انتفض فتحي لوقع الإهانة، لكنه لم يمتلك الشجاعة الكافية ليسدد عينيه إلى عيني منى، فسدد نظره إلى وجه القائد الثوري المعلق على الحائط أمامه، واستوحى منه الانفعال ليقول :
- أنا أردني وأبي أردني وأمي أردنية، ولي خال يحمل رتبة عميد في الجيش، ولست بحاجة لبنت جاهلة لا تحسن قلْيَ بيضة لتخبرني من أنا.
أطلقت منى ضحكة مفاجئة؛ ضحكة صافية وعميقة، وكشفت عن أسنانها البيضاء البديعة، وتلألأت عيناها بالدموع وقالت وهي تشمل أستاذها بنظرة حنان :
- الآن وقد تفاهمنا، هل يمكن أن نبدأ الدرس؟

المساهمون