عودة السيدة

عودة السيدة

12 أكتوبر 2015
لوحة للفنان الإسباني ماريانو بيرتوتشي، في إشبيلية (Getty)
+ الخط -
هذا الجسد الذي كان يفيض أنوثة وحيوية، كيف تحوّل في شهرين إلى خرقة بالية من الجلد تغطي قفصاً من الأسلاك الشائكة؟ قالت لي بصوت تعبٍ وأنا أدفع الكرسي المُدولب في الممر الطويل: 
- انظر، أظن أن سبعة أشواط تكفي.
مددت عنقي من فوق رأسها المنحني نحو الأرض، تماماً بين قدميها الحافيتين، وقلت :
- هل تعتقدين أن هذا العدد من البقع يكفي؟.
- أظن ذلك، إنها تملأ الممر.
يتكوّن الطابق السادس من صفين متقابلين من الغرف؛ قسم للمريضات وآخر للمرضى، تفصل بينهما غرف التمريض والخدمات المفتوحة على الجهتين. وقبيل الفجر، وأنا أمسك يدها، أشمّ رائحة صحف قديمة تزكم أنفي وتملأ الطابق كّله، ثم أشاهد عبر الباب، القامة المديدة للرجل الأبيض تعبر الممرّ بالتزامن مع انتشار الرائحة. في البداية ظننته الطبيب المناوب يتفقد المرضى، لكنّ الإعلان عن وفاة أحدهم بُعيد كل عبور له، جعلني أستنتج أن عمله يتعارض تماماً مع عمل الطبيب.
أذكر عبارتها اليائسة عندما قالت لي:
- يبدو أن موسم المشمش انتهى.
- ستظلين في "كامل مشمشك" مهما تقدّم بك العمر.

نظرت إلي بحزن، ثم أطلقت ضحكة متشنجة، فأدركت أن عبارتي جوفاء تماماً. وخلال الشهرين التاليين تقدّم بها العمر بسرعة لا تصدق؛ شاخت وهزلت وذبلت، وتحوّل بريق عينيها، الذي يحاكي ضوء النهار، إلى شمعة صفراء كثيراً ما تخبو تحت هبّات الألم، فأظن أن النهاية حلّت، فأسارع إلى الضغط على يدها والهتاف باسمها، فتصحو من غيبوبتها، وينوس الضوء في عينيها ضعيفًا كأنه ينبعث من آخر سرداب طويل. صارت تغطي وجهها بيديها إذا رأتني أتأملها، وأنا أبذل قصارى جهدي لأراها كما كانت لا كما صارت، ولاحظت أنها تغلق فتحة الصدر من ثوبها عندما تنحني، وتشدّ أطرافه عندما تزيح الغطاء عن قدميها لتنزل، وتنتهز حضور أمّها أو الممرضة لتساعداها في استعمال الحمام. آلمتني كثيراً الحساسيات التي تتوّلد بيني وبين المرأة التي أحببتها مذ كنت طالباً، ولكنّ آلامها كانت أشدّ، فلا تطيق المكوث في وضعية واحدة أكثر من عشر دقائق، ولا تحتمل الألم إذا ساعدتها على تحريك جسمها، فتئنّ وتشكو من أصابع يدي التي تغوص بين زردات عمودها الفقري، وتكاد تبرز من بين عظام قفصها الصدري. غاض خدّاها ونتأت عظمتاهما على نحو غير متساو مما جعل فكّها العلوي ينزلق عن مقعده الدائم فوق فكها السفلي، فتبدو شفتاها كمن يشعر بالقرف الدائم، وغارت عيناها تحت جبينها. وهكذا صار وجهها حجرياً لا حياة فيه، وشعرها خفيفاً كشعر العجائز، وذراعاها نحيلتين على النقيض من ساقيها المنتفختين. صارت تنام مفتوحة العينين مثل سمكة مجمدة، فإذا أطبقت جفنيها أعرف أن الحياة عادت إليها، فأبدأ بالحديث معها. تسألني : هل رأيته؟
- لقد رأيته يتجاوز باب الغرفة، فخرجتُ خلفه وراقبته؛ مشى إلى آخر الممرّ ثم عبر الباب المفضي إلى جناح الرجال.
- لكن البقع التي نزفتها يُفترض أن تقوده إلى هنا!.
- عامل النظافة مسح الأرض قبل وصوله.
هل نكرر الحيلة المُلتوية نفسها؟ أم أركض خلفه وأشدّه من ردائه الواسع وأطلب منه صراحة أن يشملنا برحمته؟ إنني أجهل تماماً الكيفية التي يختار فيها طلّابه. فبالأمس اختار مريضاً حالته الصحية أفضل من حالة زوجتي بكثير، وقبله اختار امرأة دخلت المستشفى لتلد، لكنه حرمها من رؤية وليدها. ولو كان لديه قائمة ما، لاستحقّت زوجتي أن تكون في رأسها حسب تقييم الأطباء. عشوائيته تجعلني أشعر بالغضب.
- صباح الخير. لديكِ شريكة في الغرفة، أحضروها هذا الصباح.
رفعت لها السرير فأدارت رأسها وتأمّلت السيدة البدينة الراقدة على ظهرها. كان تنفسها ثقيلاً منتظماً عبر آلة التنفس الضخمة الموصولة بفمها بأنبوب طويل. وبدا أنها لم تدرك سرّ تفاؤلي بوجود السيدة في غرفتنا، فأوضحتُ :
- وجودها يعزّز فرصتنا بأن نحظى بزيارة منه. سمعت الأطباء يقولون إن رئتيها لا تعملان.
- وهل تسمعُنا؟
- لا، هي غائبة عن الوعي.
- أحياناً يسمعون.
- إنها في الثمانينيات من عمرها، وهي في غيبوبة منذ أسابيع.
ظلّت زوجتي تتأمّل جارتها كلما استطاعت ذلك، وشعرت أنها تتأسى بوجودها، وأن تواصلاً ذهنياً أخذ ينشأ بينهما، من طرف زوجتي على الأقلّ. أما أنا فلم تكن الجارة في نظري إلا مجرد بالون منفوخ بالهواء تنبعث منه رائحة الموت.
مرّت ساعات لم تتوقف فيها عن الإصغاء إلى الجثة، ثم قالت لي فجأة :
- اقرأ لي قصيدة "المشمش".
لأوّل مرة منذ أشهر أرى بريق الإرادة في عينيها، هل هذه صحوة الموت؟
- هل تريدين سماعها بصوتي أم بصوت درويش؟
- درويش، وارفع الصوت إلى آخره.
انصعتُ دون نقاش لنبرتها الآمرة، فأمسكت هاتفي المزود بخدمة "الواي فاي"، وبعد بحث سريع انبعث الصوت الرجولي الحالم :
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة : نهاية أيلول، سيدة تترك الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجن، غيم يقلد سرباً من الكائنات، هتافات شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين، وخوف الطغاة من الأغنيات".
أطلقت زوجتي زفرة عميقة، ونظرت عبر النافذة إلى قرص الشمس الغاربة، فتلألأت في عينيها الدموع، ولاحظتُ أنها تصارع مشاعرها وخشيتُ أن جسدها الضعيف لا قِبل له بهذا الصراع، وصدق حدسي فقد ارتخت أعضاؤها وغاص رأسها في الوسادة وزاغ بصرها وتحولت عدستا عينيها إلى قطعتين من الزجاج. وعندما عادت إلى وعيها قلت لها :
- نمتِ طويلاً!
أدارت رأسها نحو السيدة، وقالت :
- ما أخبارها؟
- كما هي. ماذا تنتظرين منها؟!
لم تجب عن سؤالي، ولم تكن راغبة في الحديث، واشتكت من ألم في كلّ أنحاء جسدها، فرجوت الممرض أن يعطيها جرعة أكبر من المسكن، وبعد ساعة استرخى جسدها، ومعه خفّ وعيها بما حولها، وبقيت جالساً إلى جوارها وعيناي على الباب.
غفوت في مقعدي إغفاءة مضطربة قصيرة، أخرجني منها همس سمعته في الغرفة، وشممت رائحة غريبة كرائحة زهور عفنة، ونظرت فرأيته أمامي منحنياً فوق السيدة، وخدّه يلامس خدها، ويده تحتضن يدها، ولم أتمكن من رؤية وجهه، لكنّ وجه السيدة كان واضحاً أمامي؛ أنبوب التنفس مفصول عنها، وعيناها مفتوحتان ومتعلقتان بأذنه القريبة من فمها.
طال الوقت أم قصر؟ لا أعرف، لكن القامة المديدة اعتدلت وشدّت على يد السيدة، ثم أرختها برفق واستدارت وغادرت الغرفة. أغمضت السيدة عينيها وانتظم تنفسها من دون مساعدة الجهاز ونامت بهدوء. أما زوجتي فلم تع شيئاً مما حدث وبقيت غائبة حتى دبّت الحركة حولها؛ حركة استثنائية حولت الغرفة والطابق كلّه إلى ساحة احتفال بعودة السيدة إلى الحياة. تقاطر أبناؤها وأحفادها واختلطت ضحكاتهم بدموعهم وهم يحيطون بسريرها. ترقرقت الدموع في عيني زوجتي كأنها واحدة من بناتها، وارتعشت شفتاها واعتدلت في جلستها من دون مساعدتي وتابعت باهتمام رواية السيدة للحلم الذي رأته، قالت :
- كنت أقف في صف طويل من الناس، لا أرى أوّله ولا آخره، في أرض خالية فسيحة، ورجل يسأل كلّ واحد منهم إن كانوا يرغبون في مرافقته فيجيبون جميعهم بالقبول من دون تردد، حتى الأطفال منهم. وعندما وقف أمامي وكرر السؤال عليّ، قلت نعم، ولكنني في اللحظة نفسها سمعت نفسي أقول إنني أحب الحياة، كأن شخصاً ما نطق بلساني، فصمتَ لحظة ثم تخطاني من دون أن يقول شيئاً، ولم أنتبه إلا وقد صرت وحدي؛ غاب الآخرون جميعاً، وهبّت ريح قوية دفعتني للجري وتلاحقت أنفاسي وشهقت ووقع نظري على سقف الغرفة.
ما حدث بعد ذلك أن زوجتي دخلت في غيبوبة عميقة، وقال الطبيب إنّ مؤشراتها الحيوية لن تمكنها من العودة إلّا بمعجزة، وخلال حيرتي رأيت السيدة تنهض من سريرها وتقترب متثاقلة من سرير زوجتي وتمسك بيدها وتنحني عليها وهي تهمس لي : اقرأ لها قصيدة الحياة.

دلالات

المساهمون