العراق في سورياليته: مآلات الحركة التشكيلية

العراق في سورياليته: مآلات الحركة التشكيلية

04 سبتمبر 2014
"سماء حمراء وعصافير" لـ ضياء العزاوي/ العراق
+ الخط -

كلوحة سوريالية غامضة يبدو مستقبل الثقافة العراقية، مع دوامة الأزمات السياسية والأمنية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات. ويأتي الفن التشكيلي في مقدمة قطاعات الثقافة التي تضررت وتراجعت في السنوات الماضية، حتى بات هذا القطاع عاجزاً أمام تحديات إثبات وجوده، بعد حقبة يصفها المثقفون بالتصحّر الفني والفكري، جعلت منهم نخبة منقطعة عن واقعها، تعيش رهينة لاحتمالي الفقر والهجرة، في بلدٍ بات أسير نزاعاته وعزلته.

في بدايات القرن العشرين، كان ثمة محاولات تشكيلية عراقية متواضعة من قبل فنانين لم تتح لهم فرصة السفر إلى الخارج والاطلاع على التجارب التشكيلية في العالم آنذاك. لكن البداية الحقيقية للتشكيل العراقي الحديث كانت مع عودة فنانين شباب، درس معظمهم في أوروبا، إلى بلدهم. ورغم تقليدية الأعمال التي قدّمها هؤلاء الشباب في تلك الفترة المبكرة، إلا أنهم سرعان ما تحولوا إلى اشتغالات أكثر حداثة وانفتحوا على المدارس الفنية، وبدأ الاحتكاك بالتجارب العالمية يؤتي أُكله.

وقد شكلت الميثولوجيا الرافدينية القديمة، وما زالت، نقطة انطلاق وتمحور لكثير من التجارب التشكيلية. كما أن مفردات الفولوكلور الشعبي وقصص التاريخ كانت حاضرة أيضاً عبر أيقونات السندباد وشهرزاد والحكايا المستوحاة من "ألف ليلة وليلة". يضاف إلى هذا وذاك التصوف باعتباره تجربة روحية لها جذورها الضاربة في أرض العراق. واستمر الفن التشكيلي العراقي في تطوره الطبيعي حتى قدوم المحتل الأميركي عام 2003، حيث انفجر بركان العنف والدم وامتد على طول خارطة البلاد.

مثنّى نينوى، تشكيلي من الموصل، يقول لـ"العربي الجديد" إن المدرسة التشكيلية العراقية تعد استثنائية بالنسبة إلى المدارس التشكيلية العربية، إذ امتازت بالجرأة، في مجتمع كان أقرب إلى التقليدية، أول ما ظهرت، واستلهمت الحداثة والانطباعية في وقت كانت الواقعية مهيمنة على كثير من الفنانين العرب، رغم جمالياتها، حتّى اعتبرت هذه التجارب الجريئة مثار سخرية وضرباً من الجنون، كما قدّمتها السينما العربية آنذاك. ويضيف مثنى أن العراقيين أبدعوا في المزاوجة بين المدارس التشكيلية المعاصرة والتراث، كما في أعمال نجيب يونس، وشاكر حسن آل سعيد، وضياء العزاوي وآخرين.

لم يكن الاحتلال الأميركي وما تلاه من عنف طائفي حدثاً عابراً على المشهد الثقافي في البلاد؛ إذ سرعان ما بدأت آثاره السلبية تلقي بظلالها حتى على التفاصيل الدقيقة في الفنون. وكان من نتائج ذلك تعثّر مسار الحركة التشكيلية العراقية وعجزها عن التعامل مع إشكاليتين رئيسيتين تمثلان أكبر تحدٍّ لها؛ الأولى هي الانقسام الطائفي الذي ضرب المجتمع وحوّل مسارات الثقافة المحلية إلى قضايا كانت هامشية في السابق.

هكذا، وجد المثقفون أنفسهم أمام "شعوب"، لا شعباً عراقياً واحداً يجمعه تاريخ طويل وثقافة راسخة. وبدلاً من التفكير في المستقبل والتطلع نحو الحداثة، اتجه كثير من المثقفين، ومنهم التشكيليون، إلى محاكاة "الاتجاهات" الجديدة للمجتمع، حتى وإن بدت موغلة في البدائية والماضوية. من هنا، بدأت تظهر أعمال ذات نفس طائفي وعنصري يجافي اتجاهات المدرسة التشكيلية العراقية وتاريخها وتطلعاتها، وتبعت ذلك محاولات تسييس لم تنجح إلا في نطاق محدود.

وبعد أن كان التشكيليون، بمختلف انتماءاتهم الأيديولوجية المتناقضة أحياناً، تجمعهم جملة قضايا على رأسها التحرر من الهيمنة الأجنبية ورفض احتلال فلسطين ودعم استقلال الشعوب الخاضعة للاستعمار؛ أصبح الفن التشكيلي العراقي اليوم يفتقد لوجهة محددة، ما يعكس حالة "المرض" الشامل الذي تعيشه الثقافة العراقية. هذا فضلاً عن ابتعاده عن محاكاة الجوهر والغرق في القشور الشكلية والمظاهر.

أما التحدي الثاني، فكان الهجرة التي اضطر إليها التشكيليون الذين بقوا في العراق، لا سيّما الأسماء اللامعة منهم، نتيجة العنف وانعدام الأمن وغياب الرعاية الحكومية التي لم تُول هذا الفن إلّا أدنى اهتماماتها. ولا شك أن تغريبة هؤلاء الفنانين أثّرت سلباً على التجانس والانسيابية بين الأجيال المختلفة التي كان يعيشها هذا الفن في الماضي.

وتزداد، يوماً بعد آخر، الأسماء الفنية المهاجرة من العراق، بعدما أصبحت البيئة الثقافية في البلد "طاردة" إلى درجة غير مسبوقة، كما تقول رنا خالد، وهي تشكيلية غادرت بلدها عام 2007 إلى سوريا، ومن هناك إلى الولايات المتحدة الأميركية. وتقول خالد إنها غادرت العراق مرغمة وأنها تشعر مذ هاجرت بالعزلة بعد أن فقدت مصادر إلهامها وإبداعها، لكنها اضطرت لذلك بعدما أصبحت حياتها وحياة أسرتها مهددة.

وتشير الفنانة إلى أن تجربة الغربة، رغم قساوتها، أضافت إليها الكثير، لا سيما اطلاعها على التجارب العالمية. لكنها تخشى، في الوقت نفسه، من أن منجزات الفن التشكيلي العراقي قد تتبدد مع تفرق روادها ورموزها في بقاع الأرض المختلفة. وتضيف: "كنا في السابق نلتقي بصورة دورية، في المعارض والمناسبات الفنية. أما اليوم، فلا نلتقي إلا على الهاتف، هذا إذا تواصلنا أصلاً".

ومع مخاوف ضياع الإرث الفني الحديث الذي أنجزه العراقيون خلال قرن من الزمان، يحاول بعضهم التصدي لمهمة جمعه وتوثيقه مخافة أن يندثر أو يُسرق كما سرقت أشياء أخرى غيره. فتيان الراوي، أحد المهتمين بالفن التشكيلي، أنشأ موقعاً على شبكة الإنترنت يسعى، كما يقول، إلى نشر المحاضرات العلمية حول أسس الفن الحديث، وإلى نشر الأخبار الفنية وتوثيق أعمال الرواد من تشكيليي العراق.

ويؤكد الراوي أن الاهتمام بالفن التشكيلي أصبح في ذيل اهتمامات المواطن البسيط الغارق في هموم المعيشة وهواجس الخوف من المستقبل، وهو ما يزيد من عزلة المبدعين عن مجتمعهم.

وفي سياق تراجيديا الرحيل والأزمات هذه، يقول مثنى نينوى، إن قدر كثير من التشكيليين العراقيين يبدو كالشاطر حسن الذي غادر بغداد بحثاً عن الكنوز كي يتزوج ابنة الوالي، كما تروي الأسطورة التي تؤكد أنه عاد وظفر بحبيبته. لكن أجساد مبدعي العراق المهاجرين لم تعد حتى اللحظة إلى أرواحهم التي تركوها خلفهم في أزقة ودروب مدن بلادهم حين غادروها مرغمين، في انتظار أمل بتغيير طال انتظاره.

دلالات

المساهمون